سوريا لن تغير مواقفها والحسم سيكون في الانتخابات المقبلة

TT

كل ما قام به فؤاد السنيورة منذ تكليفه بتشكيل الحكومة الجديدة بدا وكأنه سباحة ضد التيار، فمع ان هذا التكليف جاء في إطار إتفاق الدوحة، الذي أعتبر قبل أيام قليلة فقط من إبرامه معجزة غير ممكنة التحقيق، إلا أنه اصطدم منذ اللحظة الأولى بعقبة أعطيت عنوان «عقدة الجنرال ميشال عون» بينما هي في حقيقة الأمر تلك العقدة الإقليمية ذاتها التي أدت الى كل ذلك الذي حصل في لبنان منذ اغتيال رفيق الحريري، وقبل ذلك بقليل، وحتى اجتياح بيروت الغربية بالطريقة التي أجتيحت بها قبل نحو شهرين.

كان الاعتقاد بعد العودة من الدوحة، حتى بعد اختيار الجنرال ميشال سليمان رئيساً للدولة، ان المتلاعبين بمصير البلاد، لحسابات إقليمية معروفة، مصممون على إدخال لبنان في فراغ على مستوى الحكومة بعد تخلصها من الفراغ الرئاسي وأن وضع العصي في الدواليب سيستمر طالما ان وضع المنطقة مستمر على ما هو عليه وطالما أنَّه لم تتوفر مؤشرات فعلية وجدية على ان الطلاق السياسي بين دمشق وطهران قادم لا محالة.

إذن فما الذي حصل حتى تقع المعجزة الثانية بعد معجزة الدوحة ويتمكن فؤاد السنيورة، بينما بدأت بعض الأصوات حتى من خارج حلف المعارضة تطالبه بالاعتذار، من تشكيل حكومة لا يمكن وصفها إلا أنها حكومة تجميد الأمور عند حدود ما وصلت إليه وتصريف ما يمكن تصريفه من الأوضاع خلال الأشهر القليلة المتبقية حتى موعد الانتخابات البرلمانية المقبلة التي تم الاتفاق على إجرائها في بدايات فصل الربيع المقبل..؟!

منذ البداية وعندما توقف التصعيد العسكري والسياسي فجأة وخرج الدخان الأبيض من الدوحة سادت قناعة لدى بعض المتابعين ان هناك اتفاقاً وتوافقاً سورياً ـ إيرانياً على تجميد التصعيد على كل الجبهات، الجبهة اللبنانية والجبهة الفلسطينية والجبهة العراقية وجبهة التمرد الحوثي في صعدة في اليمن، الى ما بعد الانتخابات الأميركية المقبلة وعلى أمل ان يرحل الجمهوريون نهائياً عن البيت الأبيض وتحل فيه مكان إدارة جورج بوش هذه إدارة ديموقراطية من الممكن التعامل معها بطريقة مختلفة عن التعامل مع الإدارة الحالية.

وحسب وجهة النظر هذه فإن أي تغيير لم يطرأ على هذا التوجه وأن كل ما في الأمر ان الملمس الخشن أصبح ملمساً ناعماً، ليس في العمق وإنما على السطح فقط، وأن اللغة الجارحة والقاسية أستبدلت مؤقتاً بلهجة دبلوماسية خادعة وأن الإفراج الحالي عن لبنان هو كالإفراج عن عصفورٍ حبيس داخل القفص نفسه وأن الأمور لن تلبث ان تعود الى أسوأ مما كانت عليه بمجرد إنتهاء الهدنة الحالية التي لن تكون إلا هدنة مؤقتة لن يتجاوز عمرها موعد إجراء الانتخابات الأميركية المقبلة.

لاشك في ان سوريا نجحت في إعطاء نفسها صورة غير صورتها السابقة ولاشك في أنها تمكنت من فك بعض أطواق العزلة المنسوجة حولها لكن يبقى ان العبرة بالنتائج وأن الحكم على الأمور سيكون في النهاية من خلال مدى نأي دمشق بنفسها عن إيران، وهذا غير ممكن وغير متوقع إلا بالنسبة للذين لا يعرفون حقيقة ما بين هذين البلدين من روابط تتضاءل عندها السياسات الدنيوية العابرة، ومن خلال استبدال موقفها التاريخي من لبنان والتعامل معه كدولة شقيقة مستقلة بحدود ثابتة ومعروفة وبعلاقات دبلوماسية متبادلة كالعلاقات مع باقي الدول العربية.

فهل هذا متوقع وممكن وهل فعلا ان سوريا بعد كل هذه السنوات الطويلة باتت مقتنعة بما تطالب به غالبية اللبنانيين لجهة التخلي وبصورة نهائية عن كل ما بقي ينغِّصُ العلاقات الأخوية بين دولتين شقيقتين ..؟!

رغم كل أجواء التفاؤل التي ترافقت مع إنفراج الولادة العسيرة بالنسبة لحكومة فؤاد السنيورة والتي ذهبت الى حدِّ التأكيد على ان تبادل السفراء بين دمشق وبيروت بات مسألة أيام وأسابيع فقط وليس أشهراً وأن ترسيم الحدود سيتبع ذلك على الفور فخارج أحلام اليقظة الوردية والجميلة لا يمكن الجزم بأي شيء وبخاصة أن المفاوضات «غير المباشرة» بين سوريا وإسرائيل لاتزال تدور في حلقة مفرغة وأنها لم تحرز أي تقدم فعلي ملموس وأن العلاقات السورية ـ الأميركية لم تشهد أي تحسن جدي ولم يطرأ عليها أي جديد.

إن دمشق المشهورة تاريخياً في إتقان فنون البيع والشراء لا يمكن ان تعطي أي شيء لا الى لبنان ولا الى غير لبنان بدون ثمن مجزٍ ومضاعف ولذلك فإن كل هذا الذي يقال عن تحولات قريبة في السياسات والمواقف السورية تجاه هذا البلد سيبقى أحلام يقظة وأمانٍ عزيزة بعيدة المنال ما لم تحصل سوريا على ما تريده إن في هذا الإقليم وإن في هذه المنطقة كلها وما لم تحافظ على نفوذها السياسي المعهود والمعروف داخل هذه الدولة الصغيرة «الشقيقة».

لا يمكن ان ترفع سوريا يدها عن لبنان بالصورة التي يجري الحديث عنها الآن، على هامش الزيارة التاريخية التي من المتوقع ان يقوم بها الرئيس بشار الأسد الى باريس، ما لم يتقرر سلفاً مصير الإحتلال الإسرائيلي لهضبة الجولان ومصير مزارع شبعا ومصير المحكمة الدولية التي هي عاملٌ رئيسي على هذا الصعيد وما لم تُعْطَ، وفقاً لمعادلة دولية وإقليمية جديدة، حق «الفيتو» في الواقع اللبناني الداخلي فهذه أمور لا نقاش فيها وهي تعتبر، كما في السابق كذلك الآن، أمور حياة أو موت لا يمكن التهاون فيها وغير مسموح بالمساومة عليها.

إن الكمين الذي ينتظر السنيورة وحكومته عند المنعطف المقبل، هذا إن هو صمد وصمدت حكومته المفترضة حتى ذلك الحين هو الانتخابات التشريعية (البرلمانية) المقبلة فالمعركة الحقيقية ستكون هناك والفترة حتى موعد هذه الانتخابات، التي ستكون في الربيع المقبل وربما قبل ذلك، يعتبرها المعارضون اللبنانيون والذين يقفون خلفهم ويتحكمون في تصرفاتهم مجرد مرحلة إنتقالية تأتي في سياق تجميد الحالة على ما هي عليه الى ما بعد الانتخابات الأميركية المقبلة والاستفادة من عامل الوقت لتكون السيطرة على لبنان هذه المرة شرعية وليتم إقصاء «الموالاة» وجماعة الرابع عشر من آذار عن مواقع المسؤولية من خلال صناديق الإقتراع وليكون الاستفراد بالسلطة ليس بالوسائل العسكرية التي ثبت فشلها وإنما بالطرق «الشرعية» وبالوسائل السلمية.

سيتم شلُّ وتجميد حكومة السنيورة المفترضة الجديدة وربما أيضاً تجميد قصر بعبدا خلال كل الأشهر المتبقية حتى موعد الانتخابات التشريعية (البرلمانية) في الربيع المقبل وربما قبل ذلك وستبدأ معركة هذه الانتخابات بمجرد تشكيل هذه الحكومة التي لن تكون وفي أحسن الأحوال إلا بطة عرجاء لن تستطيع فعل أي شيء والمتوقع، والأسباب هنا متعددة وكثيرة، ان يكون انتصار تحالف المعارضة بقيادة حزب الله وبدعم الداعمين من الخارج، بالمال والسلاح والألاعيب السياسية، حاسماً وكاسحاً وبحيث يقوم المنتصرون بهجوم معاكس ويستولون على كل مواقع المسؤولية، الحكومة والرئاسة وكل شيء، ما دام ان حسم المعركة سيكون تحت قبة البرلمان وما دام ان البرلمان أصبح في أيديهم.