آراء جديدة بشأن روسيا

TT

عند تنصيب ديمتري مدفيديف رئيساً لروسيا الاتحادية، ساد الاعتقاد بأنه يمثل استمراراً للسياسات التي انتهجها الرئيس السباق فلاديمير بوتين على امتداد فترتي رئاسته، هيمن خلالهما الكرملين على مجريات الأمور بالبلاد وتميزت موسكو خلالهما بسياسة خارجية قوية.

بيد أنه في أعقاب زيارة قمت بها إلى موسكو التقيت خلالها بالعديد من الشخصيات البارزة بالحقل السياسي، علاوة على ممثلين من مختلف الأعمار عن الدوائر التجارية والفكرية بالبلاد، تولدت لدي قناعة بأن هذا الحكم انطوى على قدر مفرط من التبسيط لحقائق الأمور وجاء سابقاً لأوانه.

فمن ناحية، بات واضحاً لدي أن هيكل السلطة الناشئ داخل روسيا أكثر تعقيداً مما يسود الاعتقاد في الغرب. وقد ثارت دوماً التساؤلات حول السر وراء إقدام بوتين، إذا ما كان هدفه الحقيقي الاحتفاظ بالسلطة، وهو في ذروة شعبيته التي كانت تمكنه من تعديل الدستور لتمديد فترة رئاسته على اختيار مسار معقد ومشكوك في نتائجه يتمثل في توليه منصب رئيس الوزراء.

وفي تقديري أن حقبة جديدة يبزغ فجرها في تاريخ السياسة الروسية. ويعتبر انتقال بوتين من الكرملين إلى المبنى الذي يضم الحكومة الروسية رمزاً لهذه الحقبة. من جهته، أعلن مدفيديف عزمه ترؤس مجلس الأمن القومي وتنفيذ المادة الدستورية التي تكفل للرئيس سلطة رسم السياسة الخارجية. وقد تحولت عبارة أن الرئيس يصوغ السياستين الخارجية والأمنية، بينما يضطلع رئيس الوزراء بتنفيذ أجزاء منهما إلى ما يشبه الشعار الذي يتردد على ألسنة المسؤولين الروس، بدءًا من مدفيديف وبوتين. ولم ألتق أي مسؤول روسي داخل الحكومة أو خارجها يخالجه شك في أن البلاد تشهد عملية إعادة توزيع للسلطة، رغم أنهم لم يكونوا على ثقة من المحصلة النهائية لها.

بيد أن ذلك لا ينفي أن بوتين ما يزال شخصية قوية ذات نفوذ هائل داخل روسيا، خاصة أن غالبية الروس ينظرون إليه باعتباره القائد الذي انتصر على حالة الذل والفوضى التي منيت بها الدولة والاقتصاد والآيديولوجية الروسية على امتداد عقد التسعينات الذي شهد انهيار الامبراطورية الروسية. خلال تلك الفترة، اعتمدت استعادة الاقتصاد الروسي لعافيته على المساعدات الأجنبية، في وقت اتسمت فيه السياسة الخارجية الروسية بالسلبية. ومن المحتمل أن يكون بوتين قد أوكل لنفسه مهمة مراقبة أداء خليفته، ومن المحتمل أن يكون قد أبقى على خيار الترشح في انتخابات رئاسية مستقبلية مفتوحاً.

وبغض النظر عن المحصلة النهائية، تشكل الانتخابات الرئاسية خطوة انتقالية من حقبة تعزيز سلطة الدولة إلى حقبة التحديث. ومن المؤكد أن تنازل حاكم طواعية عن السلطة من دون وجود ما يجبره على ذلك يعد حدثاً غير مسبوق في التاريخ الروسي. يذكر أن التعقيد المتنامي للاقتصاد الروسي أدى إلى ظهور الحاجة لإقرار إجراءات قانونية يمكن التوقع بها. كما أن عمل الحكومة الروسية ـ على الأقل في البداية ـ بوجود مركزين للسلطة ربما يشكل بداية التطور نحو نمط من الحكم يتميز بالتوازنات والقيود لطالما افتقرت إليه الدولة الروسية.

وبطبيعة الحال، لم يأت تطور النمط الروسي من الديمقراطية كعمل من أعمال القضاء والقدر، أو كنتاج لعملية تفكير نظرية في طبيعة الديمقراطية. إلا أن هذا القول ينطبق أيضاً على تطور الديمقراطية الغربية، ذلك أن «الوثيقة العظمى» تم تصميمها في الأصل بهدف ضمان حقوق الطبقة الأرستقراطية، وليس الشعب بصورة عامة.

والتساؤل الذي يفرض نفسه الآن: ما الدلالات التي يحملها هذا التطور بالنسبة للسياسة الخارجية الأميركية؟ على مدار الشهور القليلة القادمة، سيتركز الاهتمام الروسي على التوصل إلى سبل عملية للتمييز بين صياغة وتنفيذ سياسة الأمن القومي. وتقتضي الحكمة أن تمنح إدارة بوش والحملات الانتخابية الرئاسية لموسكو بعض المساحة لصياغة هذه الترتيبات من خلال التقليص من حجم التعليقات العامة بشأن هذه الجهود.

أما في ما يتعلق بالمدى البعيد، فإنه منذ انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، تصرفت الإدارات الأميركية المتعاقبة كما لو كان بناء ديمقراطية روسية مهمة أميركية أساسية. وتكررت طوال الوقت عبارات التنديد بنقاط القصور الروسية.

من ناحيتهم، يؤكد أنصار هذا التوجه أن حدوث تحول في المجتمع الروسي يعد شرطاً رئيساً مسبقاً لبناء نظام دولي أكثر تناغماً، محذرين من أنه إذا ما بقيت موسكو تحت ضغط، فستنفجر في نهاية الأمر مثلما حدث مع الاتحاد السوفياتي من قبل. إلا أنه على الجانب الآخر، من شأن التدخل بصورة واضحة، في ما يعتبره الروس شأناً داخلياً محضاً، إثارة مخاطرة تقويض الأهداف الجيوسياسية والأخلاقية التي ترمي واشنطن لتحقيقها.

ولا شك أن هناك جماعات وأفرادا داخل روسيا يتطلعون نحو واشنطن كي تساعد في الإسراع من وتيرة التطور الديمقراطي، لكن جميع المراقبين تقريباً يتفقون في ما بينهم على أن الغالبية العظمى من الروس يتهمون الولايات المتحدة بالوقاحة والعمل على تقويض استعادة الاقتصاد الروسي لقوته. ومن الواضح أن مثل هذه البيئة من شأنها زيادة احتمالات ظهور استجابة روسية للتدخل الأميركي تتسم بطابع قومي وتقوم على المواجهة، بدلاً من حدوث تطور ديمقراطي.

وسيكون من المؤسف استمرار هذا الاعتقاد، نظراً لأنه في الكثير من الجوانب تمر موسكو الآن بواحدة من أكثر فتراتها التاريخية الواعدة. ويدخل المجتمع الروسي حالياً في اتصال وتعاون مع المجتمعات الحديثة المفتوحة بدرجة تفوق ما شهده في أي من الحقب السابقة. وكلما طال أمد هذا الاتصال، تعمق تأثيره على التطور السياسي الروسي.

من جانبنا، تلزمنا قيم مجتمعنا الأميركي على التزام صف التطور الديمقراطي، لكن وتيرة تحقق هذا التطور لا بد أن يحددها الروس وحدهم. وبإمكاننا التأثير بدرجة أكبر عليها من خلال إبداء الصبر والتفهم التاريخي.

وتزداد أهمية ذلك بالنظر إلى أن الحقائق الجيوسياسية القائمة توفر فرصة غير عادية للتعاون بين الخصوم السابقين أثناء الحرب الباردة. يذكر أن واشنطن وموسكو تسيطران على 90 في المائة من الأسلحة النووية على المستوى العالم. كما تتميز روسيا بأكبر مساحة من الأراضي بين دول العالم، ما يجعلها متاخمة لأوروبا وآسيا والشرق الأوسط. وتستلزم الجهود الرامية لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط وإيران، في ما يتعلق بالأسلحة النووية، وجود تعاون روسي ـ أميركي.

تاريخياً، وجدت السياسة الخارجية الإمبريالية لروسيا القيصرية والسوفياتية الطريق سهلاً أمامها جراء ضعف ـ تقريباً ـ جميع الدول الواقعة على حدودها. وقد مكن ذلك موسكو، خلال قرن ونصف القرن، من التوسع بصورة هائلة كما لو كانت إحدى قوى الطبيعة الكاسحة، من فولغا وإلب إلى القوقاز، واقتربت من الهند. داخل آسيا، اخترقت موسكو المحيط الهادي إلى داخل منشوريا وكوريا. ولقي الزخم الروسي دعماً من الطبيعة الاستبدادية لحكم الكرملين، الأمر الذي مكن القيصر والحكام السوفيات من تنفيذ السياسات التي تروق لهم دون قيد. وبمرور الوقت، بات مفهوم الأمن مكافئاً لاستمرار التوسع، وتم اكتساب الشرعية على الصعيد الداخلي من خلال استعراض القوة في الخارج.

بيد أن تغيراً جوهرياً طرأ على الأوضاع في الوقت الحاضر، حيث تغلب جيران موسكو على ضعفهم الذي أغواها على الإقدام على مغامراتها التوسعية. كما باتت الحدود الممتدة مع الصين لمسافة 2500 ميل بمثابة تحد ديموغرافي، ذلك أنه شرق بحيرة بيكال يقف 6.8 مليون روسي في مواجهة 120 مليون صيني داخل الأقاليم الواقعة على امتداد الحدود المشتركة بين البلدين. وعبر حدود ممتدة أخرى، تواجه روسيا ضرورة التعامل مع حركة إسلامية تعمد إلى توسيع نطاق نفوذها بجنوب روسيا. وعلى الحدود الغربية، تواجه موسكو الحاجة للتأقلم مع فقدان إمبراطوريتها. وأصبح نطاق النفوذ الاستراتيجي الروسي محدوداً بسبب عدد من المتغيرات الجديدة على أرض الواقع، منها توسع عضوية حلف الناتو لتضم دول أعضاء بحلف وارسو السابق.

وفي الوقت الذي تتنامى فيه مشاعر الاعتزاز القومي في نفوس الروس، يدرك قادتهم جيداً المخاطر الكامنة وراء أي محاولة لتغيير النظام الدولي الجديد اعتماداً على الأساليب الروسية التقليدية. وهم يعون جيداً أن الروس المسلمين البالغ تعدادهم 25 مليون نسمة، بينهم عدد كبير مشكوك في مدى ولائهم للدولة. في الوقت ذاته، هناك حاجة لإصلاح نظام الرعاية الصحية وإعادة بناء البنية التحتية. وبذلك يتضح أن روسيا الآن مجبرة على التركيز على الإصلاح الداخلي خلال الفترة القادمة.

ورغم خطاباتهم التي تحمل نبرة المواجهة ونمط السياسيات الاستئسادية التي اعتادت روسيا عليها خلال الحقبة الإمبريالية، يعي قادة البلاد جيداً الحدود الاستراتيجية التي لا يمكنهم تجاوزها. وفي الواقع، أرى أن من أهم الملامح المميزة للسياسة الروسية في عهد بوتين البحث عن شريك استراتيجي يمكن الاعتماد عليه، وشكلت الولايات المتحدة الاختيار المفضل لدى القيادة الروسية. ويعكس الخطاب الروسي العنيف في السنوات الأخيرة، في جزء منه، الشعور بالإحباط جراء عدم إبداء واشنطن اهتماما بالمساعي الروسية لكسبها كشريك استراتيجي. ورغم أن الرئيسين الروسي والأميركي نجحا في بناء علاقة بناءة، فإنهما عجزا عن التغلب على العادات المؤسساتية المميزة لحقبة الحرب الباردة. على الجانب الروسي، كان من شأن إجراء جولتين انتخابيتين من أجل الدوما واختيار الرئيس منح القادة الروس حافزاً للعمل على التودد إلى المشاعر الوطنية التي سادت البلاد بعد عقد من التعرض للمهانة والإذلال.

بيد أن ذلك لا يغير من الواقع القائم. ويمكن القول بأن ثلاث قضايا تهيمن في الوقت الحاضر على الأجندة السياسية الروسية: الأمن وإيران وعلاقة روسيا بالدول التي سبق أن كانت خاضعة لسيطرتها، خاصة أوكرانيا.

وفي ضوء الهيمنة العالمية التي تتمتعان بها على صعيد امتلاك الأسلحة النووية، تتحمل الدولتان مسؤولية خاصة لأن تضطلعا بدور الريادة في تناول القضايا النووية العالمية، مثل منع الانتشار النووي. وقد تم بالفعل اتخاذ مبادرات بناءة على هذا الصعيد، مثل إقرار قدر أكبر من الشفافية والربط بين أنظمة الدفاع الصاروخية للبلدين، حسبما تمت الإشارة عن الرئيسين بوتين وبوش في الإعلان الصادر عنهما عن قمتهما في سوتشي في أبريل (نيسان) من هذا العام. لكن حتى الآن، لم يتم تحديد الترتيبات التفصيلية للتنفيذ.

وهناك أربعة تساؤلات رئيسة تنبغي الإجابة عليها في ما يتعلق بالانتشار النووي: هل تتفق روسيا والولايات المتحدة على طبيعة التحديات الناشئة عن حيازة إيران للسلاح النووي؟ هل تتفقان على وضع البرنامج النووي الإيراني الراهن؟ هل تتفقان على اتباع نهج دبلوماسي لتجنب الأخطار المحتملة؟ وهل تتفقان على ماهية الإجراءات الواجب اتباعها حال إخفاق الجهود الدبلوماسية؟

في الواقع، يسود لدي انطباع بأن هناك إجماعا ناشئا بين واشنطن وموسكو حيال الإجابة عن التساؤلين الأولين. أما في ما يتعلق بالاثنين الآخرين، فيجب على الجانبين أن يضعا في اعتبارهما أنه ليس باستطاعة أي منهما التغلب على التحدي القائم بمفرده أو على الأقل سيواجه صعوبة أكبر في ذلك.

وترتبط قضية العلاقات الروسية مع أوكرانيا بلب وجهتي نظر الجانبين حيال طبيعة الشؤون الدولية، ذلك أنه بينما تنظر الولايات المتحدة الى الأمر اعتماداً على الدروس المستفادة من الحرب الباردة وتعتبره متعلقاً بضرورة التغلب على تهديد عسكري محتمل، يرتبط الأمر بالنسبة لروسيا بالحاجة إلى التكيف مع تحول تاريخي مؤلم.

ويعد الاستقلال الحقيقي لأوكرانيا شرطاً رئيساً لبناء نظام دولي سلمي. لذا، يجب أن تدعمه واشنطن بقوة. ومن المهم خلق روابط وثيقة بين الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا، بما في ذلك ضمها إلى عضويته.

وقد حدد إعلان سوتشي الصادر عن الرئيسين بوش وبوتين في أبريل (نيسان) خارطة الطريق لحوار استراتيجي ناشئ بين الجانبين، ويبقى أن تقوم الإدارات القادمة داخل واشنطن وموسكو بصياغة إطار عملي له.

* خدمة «تربيون ميديا سيرفيسز»

خاص بـ«الشرق الأوسط»