منطقة سيئة السمعة: باب التبانة

TT

حقاً، ثمة ما لا يصدق! هل يعقل أن تجد متسولين بالجملة ينبشون في النفايات ليقتاتوا وهم على مرمى حجر من كنز لا ينضب؟ وهل يجوز أن تترك منطقة باب التبانة لتتحول إلى واحدة من أكثر مناطق لبنان فقراً وعوزاً ـ حسب الأمم المتحدة ـ وهي ملاصقة للأسواق الأثرية القديمة والبديعة التي بات معروفاً أن بمقدورها ان تدرّ أموالاً طائلة، وتوظف المئات وربما الآلاف، لو نفض الغبار عنها، وأعيد ترميمها وتأهيلها جدياً. شيخ، وإمام مسجد، خانته الحكمة، وأخذته الحمية على أهل السنة، أخذ يخطب في الناس في طرابلس منذ أيام، يطالبهم بالتبرع بأموالهم لأهالي باب التبانة ليشتروا السلاح ويدافعوا عن أنفسهم ضد أهالي جبل محسن العلويين الذين يقتتلون معهم منذ ثلاثين سنة. ولو كان شيخنا يدري لقال غير ذلك، ولوجّه لومه لسياسيين، لم يروا في سكان هذه المنطقة الفقيرة غير حطب لمشاريعهم، وأدوات لتحقيق مآربهم، برشاوى صغيرة، ومعونات هزيلة. وفي مواسم الانتخابات حين تسأل الأهالي هناك، لماذا يريدون انتخاب هذا المرشح أو ذاك، تجدهم يقولون إنه طبب أولادهم، او انه دفع أقساط مدارسهم، أو ربما أعطاهم 100 دولار لأنهم علقوا صورته. ونادراً ما يتحدثون عن زعيم دبّر لهم وظيفة ينصرفون بها عن حاجته أو فتح لهم مصنعاً أو مشروعاً يغنيهم عن منته. ولو جمع النواب والمتزعمون الذين مروا على طرابلس فتات رشاويهم التي دفعوها على مدار العقود الماضية لتطويع وتركيع أهالي التبانة ـ وما ينطبق عليهم يصح على جبل محسن ـ واقاموا بها مشاريع استثمارية كبيرة، لما كنا سمعنا اليوم عن معارك بغيضة واقتتالات أخوية تدور هناك، ليس فقط بين سنة وعلويين، بل بين السنة أنفسهم، حين يشتعل في رأسهم الغضب، ويأكلهم العوز.

«وراء كل شعب بائس قادة أغبياء» ووراء مشكلة باب التبانة نظام سياسي فاسد ومهترئ، يرقّع ثقوبه من دون جدوى. ولمن لا يعرف فإن التبانة هذه تقع على نهر ـ والانهار مرتبطة بالازدهار ـ وتطل على قلعة صليبية رائعة، وتلاصق المدينة المملوكية القديمة التي تعتبر الأكبر في العالم الإسلامي، وتمتد على مساحات شاسعة، فيها الخانات والمساجد والحمامات العتيقة والفريدة، إضافة إلى الأزقة الأثرية والبرك والساحات، هذا غير البيوت والمدارس، وكلها مأهولة ومهملة في الوقت نفسه، وأهلها أنفسهم يعانون الفقر الشديد. هذا المتحف الحي الذي اهتم به البنك الدولي، وتم تمويل تأهيله، واقيمت فيه ورشة كبيرة، يتبين اليوم أن ترميمه كان مجرد رفع عتب، والتنفيذ سطحي وخائب ومخيب. فإن كانت سورية قد جنت سياسياً وأمنياً على منطقتي التبانة وجبل محسن اثناء وجودها في لبنان، فلماذا يشارك اللبنانيون في الجريمة الآن، وقد بات بمقدورهم أن يرفعوا الغبن، ويجعلوا من المدينة القديمة قبلة للسياح ومصدر رزق للعاطلين عن العمل. باب التبانة هذه، لمن لا يعرف أيضاً، هي على المدخل الشمالي لمدينة طرابلس، حيث تمر من هناك كل البضائع الآتية من سورية، وكانت دائماً منطقة تجارية خصبة، وفيها أكبر سوق للخضار. لكن أكثر ما يلفت نظرك حين تدخلها في السنوات الأخيرة، هي كثرة صور السياسيين الكبيرة والشعارات التي تؤيدهم، وهي دلالة على إحساس الناس بالضعف والحاجة المؤلمة لحماية ما، ولمظلة تقيهم البؤس. لكن بئس المظلة، فلو مرّ سريعاً أمبرتو إيكو، رجل السيمياء الأشهر، من هنا لأدرك كمّ معاناة الناس من كثافة الصور التي يعلقونها أيقونات قد تقيهم شرّ الحاجة.

هذه المنطقة المحرومة نموذج فاضح ومهين لفشل النظام السياسي اللبناني، القائم على المحاصصات والمحسوبيات وتوزيع المكاسب. «نحن ليس لنا ظهر» يقولون لك «لو سجنا ليس لنا واسطة تخرجنا، يهينوننا وليس من يدافع عنا. من يريد ان يتبلّى علينا يدفع رشوة فيقتادوننا للتحقيق في جريمة لم نرتكبها». إنهم يشتكون من نقص المدارس لكن حتى لو وجدت فإن دخول اطفالهم اليها يحتاج إلى منّة الزعيم. والاستشفاء على حساب وزارة الصحة يمر بالطريق نفسه. أما من ترضى عنه السماء ويحصل على شهادة توصله إلى وظيفة ـ وهؤلاء قلة ـ فلا بد ان يمر بالزعيم أيضاً كي يحصل عليها. هكذا تجد ان كل الدروب تعيدك إلى الزعيم، الذي بمقدوره ان يبيعك ويشتريك حين تكون معدماً، حتى ليمكنه ان يقطع عنك الهواء. يحكي السكان قصصاً لا تصدق، يروون حكايات عن إهانات يتعرضون لها لتسجيل أطفالهم في المدارس حتى تدمع أعينهم، ولا يقل قهرهم حدة ودمعهم سخاء حين يخبرونك عن درب الآلام الذي يجتازونه لشراء دواء أو تطبيب طفل. الرجال الذين يبكون ذلاً بمقدورهم ان يقتلوا بدم بارد، والسياسيون الذين يرون كل هذا الفشل ويستمرون في السير على نفس الطريق وكأنما السلطة أعمت أعينهم، ربما لا يدركون أن لباب التبانة مناطق كثيرة تشبهها، وإن كان صوتها قد ارتفع بسبب الدم الذي سال، فالفقر المتزايد مع ارتفاع الأسعار، والفساد المتصاعد، سيفجر أماكن أخرى، وأوكاراً للاستغلال المخبئة ربما لا نعرف عنها الكثير اليوم. وعيب على الحكومة الجديدة التي ستتشكل أن تعتبر نفسها مجرد لجنة تنظيم للانتخابات وتقسيم قوالب الحلوى، فإن كان لها من دور بالفعل هو ان تنقذ المواطنين، بأن تبدأ بوضع المداميك الأولى لدولة تحمي فقراءها من سياسييها أولاً وزعمائها، قبل إيران وأميركا والصهيونية العالمية.

[email protected]