مفكر رحل

TT

هناك كلمات تنتشر في العالم العربي بداع وبدون داع، منها للتعريف وأخرى للوصف. كلمات كالداعية والفذ والمفكر والعملاق والمميز وغيرها. وفقد العالم العربي منذ أيام شخصية فذة كان من الممكن أن تستحوذ على هذه الألقاب وغيرها بجدارة واستحقاق ودون مجاملة أو مبالغة بأي شكل من الأشكال. عبد الوهاب المسيري الذي رحل عن عالمنا بعد معاناة ليست بالقصيرة مع المرض، سقط شامخا ومعتزا وخلف من ورائه هامة عملاقة وإرثا فكريا غير عادي ستشكره عليه وتقدره أرتال من الأجيال القادمة.

لقد أقدم المسيري على عمل مؤسساتي دؤوب ومميز، وتخصص في حقل بالغ الأهمية وتحديدا في مسألة اليهود واليهودية والصهيونية، وهو الجهد الذي أثمر من خلاله موسوعة متكاملة فيها عناصر البحث العلمي والتوثيق المهني المبني على المعلومة، وليس على العواطف والمواقف المستبقة. ومن خلال هذه الموسوعة فند عبد الوهاب المسيري وضع اليهودية كديانة سماوية وتحدث بإسهاب دقيق وواضح عن «الشعب» اليهودي وتاريخه وجذور الهوية، وانتقال هذا النقاش على طرح استعماري يخدم مخططا سياسيا اسمه الصهيونية، وكذلك قدم المفكر الراحل تشريحا عظيما للعلاقة غير الطبيعية بين الغرب والصهيونية، وكيف تم توظيف هذه العلاقة للخدمة المشتركة وكذلك للأرباح والمصالح المشتركة، وأن الصهيونية كانت نتاجا طبيعيا لفكر استعماري إمبريالي لم يعد بإمكانه الاستمرار على ما كان عليه بسبب تغير ظروف كثيرة، وعليه فإن من الضروري أن تمارس هذه المسألة عن طريق طرف ثالث له مصالح هائلة، وقد كان هذا الأمر وبنجاح منقطع النظير.

حاول المسيري في طروحاته أن يزيل اللبس والغموض عن الكثير من مواقف الصهيونية حتى لا يقع العرب في شراك النظرة التآمرية البسيطة. كان في حالة سلام شديد مع نفسه، تنقل بمواقفه المتغيرة عبر سنوات عمره، فدخل في الحراك الشيوعي، وصاحب القومية ودخل الحركة الإسلامية، وانتقل للجهد الأكاديمي الاستثنائي وتألق فيه بنجاح كبير، وفي آخر مراحل حياته دخل وبقوة في مجال العمل السياسي ومن خلال ترؤسه لحركة «كفاية» قام بالعديد من المبادرات الشعبية التي كان الهدف منها تسليط الضوء على الممارسات الحقوقية الخاطئة، وتقديم نماذج حية من الاستبداد والفساد والكشف عنها بالعمل السلمي المنظم والمدعوم بالوثائق والأدلة. برحيل عبد الوهاب المسيري فقد العالم العربي رجلا فذا ومفكرا عظيما قام بعمله بجدارة وأمانة وقوة فكسب الاحترام والتقدير، والآن يأخذ من محبيه الدعاء بالرحمة والتذكر بالسيرة الطيبة وهذا لعمري نادر في هذا الزمان.

[email protected]