سكون في سورية «المفاوِضة» وضجيج في العراق المصافِح

TT

في سورية سكون لافت يرافق جلسات التفاوض الاسرائيلية ـ السورية بترتيبات اردوغانية في الظاهر ومن دون ان ينبري نائب في البرلمان يطلب ايضاً ايضاحات او يسجل موقفاً. وفي العراق ضجة حول المصافحة الطالبانية ـ الباراكية بترتيبات عباسية في الظاهر ايضاً، كما تلك الضجة في اللاذقية على نحو تصوير الشاعر العربي لها ببضعة أبيات مطلعها «في اللاذقية ضجة ما بين احمد والمسيح.. هذا بناقوس يدق وذا بمئذنة يصيح.. «. والقصد من تشبيهنا هذا هو أن الموضوع المضاجَج عليه طبيعي كون الفاعل والمحتجّ على الفعْل يعيشان تحت مظلة الاحتلال المقبول من كليْهما. وفي هذه الحال فإن ما فعله رئيس الدولة ليس وزراً في ضوء ما هو حاصل في المشهد العام كما ان احتجَاج المحتجَ على الفعْل يبدو مثيراً للاستغراب، إذ قبل ان تعترض على الفعْل تذكَّر انك محتل من قِبَل اميركا.

ولكي لا يبدو ما نقوله كما لو انه كلام حول الغاز، نشير الى ان الرئيس جلال طالباني شارك في «المؤتمر الدولي للاشتراكية» في اثينا بعدما عاد من زيارة الى واشنطن ظاهرها لمعالجة زيادة وزنه وما ينشأ عن هذه الزيادة من مضاعفات وجوهرها حسم موضوع المعاهدة التي تنتظر الادارة البوشية من الذين يحكمون العراق لحساب اميركا إبرامها قبل ان تنصرف هذه الادارة وتبقى الامور عالقة وعلى جانب من التعقيد والارتباك.

وبينما الرئيس طالباني في طريقه الى قاعة الاجتماع، او بعد مغادرة القاعة لا ندري، باغته الرئيس الفلسطيني محمود عباس بمبادرة متعمَّدة وتتلخص في جمْعه بوزير الدفاع الاسرائيلي ايهود باراك المشارك في مؤتمر «الدولية الاشتراكية». وعند القاء نظرة على اللقطة المصوَّرة للقاء يتضح ان الوزير باراك المسؤول عن تصفية عشرات المناضلين في غاية الابتهاج وأن الرئيس العراقي غير منزعج مما فعله الرئيس الفلسطيني، وكيف ينزعج وهو الذي سبق وأدلى وهو في واشنطن بتصريحات اوحى فيها بالاستعداد لخطوة سلام عراقية ـ اسرائيلية يشجِّعه على ذلك ما يفعله الحكم السوري الذي خطا خطوات لافتة على طريق التفاوض مع اسرائيل.

ما فعله الرئيس طالباني حدث مع مسؤولين عرب ومسلمين في مثل هذه المؤتمرات، وفي ملتقى «دافوس» السويسري الذي شهد ذات مرة تبادل الكلام والسلام بين احد رموز الحكم الايراني الرئيس السابق خاتمي وشيمون بيريز الرئيس الحالي للدولة في اسرائيل. ودائماً كان التبرير: إنها مجرد مصادفة وان تقاليد العرب والمسلمين تفرض على المرء أن يمد اليد الى اليد الممدودة اليه وأن يرد على التحية بمثلها او بأحسن منها. في بغداد قوبل بالاحتجاج البسيط نوعاً هذا الذي فعَلَه الرئيس طالباني الذي انتخبه مؤتمر أثينا نائباً لرئيس «الاشتراكية الدولية» مما يعني انه مستقبلاً او بدءاً من ترسيمه في هذا المنصب ليس فقط سيتبادل السلام مع من يُمثّل اسرائيل في «الاشتراكية الدولية» وبطريق الصدفة وانما سيكون في الاجتماعات مناقِشاً معه ومستمعاً اليه ما دامت الرفقة الاشتراكية حدثت. فقد طالب ظافر العاني عضو البرلمان العراقي بمثول الرئيس طالباني امام البرلمان وتوضيح ملابسات ما فَعَله من دون ان يقتنع المُطالِب بهذا الاستجواب بما اوضحه مكتب طالباني من ان الرئيس إستجاب لطلب رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس وان ما جرى «كان سلوكاً اجتماعياً حضارياً لا ينطوي على اي معنى او تداعيات اخرى ولا يحمِّل العراق ـ الدولة اي التزامات، كما انه لا يؤسس لأي موقف مغاير لسياسات جمهورية العراق وتوجُّهاتها ومواقفها الداعمة للشعب الفلسطيني والسلطة الوطنية الفلسطينية». وكتعبير عن عدم الاقتناع فإن النائب ظافر العاني قال في تصريح يوم الجمعة 4ـ7ـ2008 «إن من المؤسف حقاً قيام رئيس الجمهورية بمثل هذا الموقف الذي جرح الشعب العراقي بأكمله من شماله الى جنوبه وأن التبرير الذي قدَّمه رئيس الجمهورية ليس مقنِعاً ذلك ان اختيار طالباني نائباً لرئيس الاشتراكية الدولية جاء بسبب صفته الاعتبارية رئيساً للدولة العراقية، ونحن ما زلنا مع الكيان الصهيوني في حالة حرب، وإن شواهد قبور العراقيين الذين قُتلوا على أيدي الكيان الصهيوني ما زالت موجودة في فلسطين وسورية وسيناء والاردن وهي شاهدة على العدوان الاسرائيلي الذي شمل ايضاً مُفاعِل تموز في العراق في مطلع الثمانينات. وبالنسبة الى التبرير بأن المصافحة جاءت من الرئيس طالباني بصفته رئيساً للاتحاد الوطني الكردستاني وليس كرئيس للدولة، نقول إنه ليس مسموحاً لأي رئيس حزب حتى إن لم يكن في السلطة بل ولا حتى لأي مواطن عراقي ان يقيم علاقات مع دولة عدوة لم تُعقد بيننا وبينها اي هدنة..».

في بداية الأمر لم تصمد الضجة التي اثارها البرلماني ظافر العاني لسببين: الاول هو أن «جبهة التوافق»، اكبر الكتل السُنية في البرلمان، المنتمي اليها اعتبرت موقفه مجرد رأي شخصي وقال المتحدث باسمها سليم عبد الله «إن من حق اي عضو في البرلمان التعبير عن رأيه في اي قضية تُطرح ولكن هذا لا يعني الموقف الرسمي للجبهة. إن اعضاء الجبهة غير مسرورين لهذه المصافحة ولكن الجبهة تتفهم بعض التبريرات للأفعال وقد لا نتقبل تبريرات اخرى. وفي اي حال لا اعتقد أن هذا الأمر سيؤدي الى مساءلة رئيس الجمهورية لأنه يتمتع بالحقوق والصلاحيات التشريعية التي تمنع عنه هذه المساءلة». اما السبب الثاني فهو أن «عانيِّاً» آخر هو نصير العاني رئيس ديوان رئاسة الجمهورية رأى أن آراء «العاني» البرلماني بشأن المصافحة الطلبانية ـ الباراكية «هي آراء فردية ولا تعبِّر عن وجهة نظر رسمية وهي تعبيرات للإعلام ولا يمكننا الرد عليها لأنها آراء فردية.. ».

لكن بعدما سلكت المسألة طريق المزايدة فإن منسوب الضجة ارتفع قليلاً. وما نقصده بالمزايدة ان بعض الصدريين جماعة السيد مقتدى وجدوا ان السُنة في شخص «التوافقي» ظاهر العاني كان المبادِر في التصدي للفعْل الطالباني، فاندفع احمد المسعودي احد نواب الكتلة الصدرية ليقول في لهجة اعلى: «لقد قلت لرئيس البرلمان محمود المشهداني إن المصافحة صفعة في وجه الشعب العراقي. إنها انتهاك للقانون، ولقد تلقيتُ العديد من الشكاوى من عراقيين حولها وان بعض النواب طالبوا بإعتذار او حتى الاستقالة». كما ان علي الاديب النائب عن «حزب الدعوة» الذي يتزعمه رئيس الحكومة نوري المالكي قال: «من المفروض ان يُمثّل الرئيس السياسة العراقية، التي تعني عدم الاعتراف بإسرائيل.. لذا يجب عليه ان يعتذر».

حتى الآن لم ترتفع وتيرة رد الفعل الكردي وبقي عند حدود القول الملطَّف للنائب الكردي فؤاد معصوم بما معناه إن الرئيس محمود عباس قدَّم باراك الى الرئيس جلال طالباني «ومن غير المنطقي ان يرفض المصافحة وهذا لا يعني ان العلاقة طبيعية بين العراق واسرائيل».

هذا الضجيج جاء متزامناً مع الواقعة المتعلقة بثلاثمائة مخطوطة دينية باللغة العبرية من بينها تعليق لـ«سِفْر ايوب» نُشر عام 1487 وجزء من «كتب الانبياء» نُشر في البندقية عام 1617، اختفت خلال الغزو الاميركي ـ البريطاني للعراق ووصلت الى اسرائيل ثم جرى نقلها الى الولايات المتحدة عام 2003 لصيانتها. وفي حين قيل ان القوات الاميركية اكتشفت وجود الصناديق وعددها 27 التي كانت الوثائق والمخطوطات في داخلها خلال مداهمات استهدفت حي المنصور في بغداد، فإن رواية اخرى تفيد أن اسرائيل اشترت الوثائق والمخطوطات من لصوص. والآن وقد انتهى امر هذه الثروة في اميركا فإن المطالبة باستعادتها ستكون في اطار مفاوضات لمعرفة ما اذا كانت سليمة او ان اسرائيل اكتفت بتصويرها ثم سلَّمتها الى السلطات الاميركية المختصة.

نَخلُص الى تسجيل ملاحظتين:

الاولى هي ان الضجيج الدائر في العراق حول المصافحة الطلبانية ـ الباراكية يتزامن مع سكون عميق في سورية يرافق جلسات التفاوض السورية ـ الاسرائيلية غير المباشرة في تركيا التي يقال إنها ستكون خلال اسابيع مباشرة. وهكذا تكون انقلبت الآية.

الثانية هي ان الاعتراض على المصافحة على نحو ما اشرنا يعني انه ما زال في العراق بقية نظرة عروبية للصراع مع اسرائيل لكن الاختراق الكردي لهذه النظرة اقوى على ما يجوز الاعتقاد.

.. ولولا ذلك لما كان الرئيس جلال طالباني صافح ولا كان الوزير زيباري سكت ولا كان مسعود بارزاني لا سمع ولا رأى.. ولا نطق. وهؤلاء حالهم مثل حال اهل السياسة الحاليين في سورية المجاورة.