«النفاتية».. شكلا من الإسلاموفوبيا الجديدة

TT

صادقت الجمعية العامة للأمم المتحدة السنة المنصرمة على قرار يدين إنكار الجرائم النازية ضد اليهود، تقنينا لاتجاه شامل في التشريعات الأوروبية يعتبر «النفاتية» (أي نفي صحة وقائع المحرقة) جريمة يعاقب عليها القانون. وظهر ميل جديد الى إلحاق فظائع الإبادة الجماعية الأخرى (في رواندا والبلقان) بالجرائم النازية.

وقد عن لي أن أستخدم عبارة «النفاتية» اليوم بهذا المعنى المألوف، وإنما بمعنى آخر هو إنكار دور ومنزلة الإسلام والتراث الإسلامي في الثقافة الإنسانية وفي تشكل الغرب الحديث. ومن الواضح أن هذه النزعة المتنامية غدت اليوم أحد مرتكزات الإسلاموفبيا، أي النظرة العدائية العنصرية  للإسلام. ومن آخر تجليات هذه النزعة كتاب المؤرخ الفرنسي سلفيان غوجيهم «الجذور اليونانية لأوروبا المسيحية»، الذي يتمحور حول فكرة رئيسية هي إنكار أي دور للعرب والمسلمين في نقل التراث اليوناني للغرب الحديث، بل نفي أي إسهام للعلماء والفلاسفة المسلمين في حركية الحداثة.

فبالنسبة له، تقابلت الحضارتان الإسلامية والغربية المسيحية منذ العصور الوسطى، ولم يكن لأي منهما تأثير جوهري على الأخرى.

فالحضارة الأوروبية هي وليدة امتزاج الأناجيل والتراث العقلاني الإغريقي، أما الحضارة الإسلامية فهي وليدة النص المقدس (القرآن الكريم)، الذي ينظر اليه المسلمون ككتاب أزلي غير مخلوق، لا يقبل التبديل ولا التحول، مما يجعله عاجزا عن تقبل التصور العلمي الموضوعي والواقعي.

بل ان الكاتب يفسر «القصور الإسلامي» الفطري بعوامل لغوية، معتبرا أن اللغة العربية لا تتلاءم من حيث بنيتها الدلالية مع التجريد المنطقي والمفاهيم العقلانية، بل هي لغة شعر وعاطفة، في مقابل اللغات الهندوأوروبية ذات البنية التركيبية المتمحورة حول نظام الجملة. ويستنتج من هذا الحكم المثير خلاصة أكثر غرابة هي أن الفضول اتجاه الآخر ميزة خاصة بالثقافة الأوروبية، نادرة خارج السياق الأوروبي، وشاذة في الحضارة الإسلامية المتسمة بالانغلاق والأحادية. ومن هنا يعتبر أن لا سبيل لالتقاء الإسلام وأوروبا ذات الجذور، بل الهوية المسيحية الخالصة، منتهيا الى «انه لا يمكن في آن واحد أن نتبع عيسى ومحمد.. فالتباين الصدامي بين المسيحيين والمسلمين هو أساس هوية الحضارتين».

وقد أثار الكتاب ضجة هائلة في البلدان الغربية، وخصصت له اليوميات الفرنسية الرئيسية الثلاث («لوموند» و«لوفيغارو» و«ليبراسيون») ملفات خاصة، واحتفت به الدوائر المتطرفة المعادية للعرب والمسلمين.

بيد أننا نسجل بارتياح أن 56 من كبار المؤرخين والعلماء الغربيين  أصدروا في صحيفة «ليبراسيون» بيانا علميا رفيع المستوى رد بكل دقة وجلاء على ترهات غوجنهيم . وقد حمل البيان عنوان «نعم الغرب مدين للعالم الإسلامي»، وأوضح أن الكاتب سقط في أغلاط علمية قاتلة مصدرها العماء الآيديولوجي، مستغربا من اتهامه الثقافة الإسلامية بالجمود لأسباب عقدية مع تبرئة المسيحية من هذا الحكم، مع أن اكتشافات العرب في مجالات الفلك والرياضيات وغيرهما كانت أهم بكثير من الإسهام الروماني الذي اعتبره المؤلف القنطرة الواصلة بين التراث اليوناني والحضارة الأوروبية الحديثة.

ومن الأخطاء الغريبة التي بنى عليها الكاتب أحكامه الربط العضوي بين أوروبا والهوية المسيحية والفصل الجذري بين الفضاء العربي الإسلامي والعالم اليوناني القديم.

أما الموضوع الأول الذي طرحه مؤخرا الرئيس الفرنسي جيسكار دستان في سياق صياغة دستور جديد لأوروبا الموحدة، فليس سوى أسطورة تحتاج للمراجعة، مما بينه المؤرخ الفرنسي الأبرز، بول فاين، في كتابه الأخير المتميز «عندما أصبح عالمنا مسيحيا»، وفيه يتناول بعمق كثيف مسار انتشار المسيحية في أوروبا، منتهيا الى أن أوروبا الحديثة لم تتشكل إلا بالقطيعة مع جذورها المسيحية منذ عصور الأنوار، فآباؤها الروحيون الحقيقيون هم كانط وسبينوزا وليس القديس أوغسطين وتوماس الأكويني.

أما الموضوع الثاني فقد بينه الفيلسوف التونسي يوسف الصديق في إطار رده على الكاتب، مبينا الامتزاج العميق والقديم بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافة اليونانية، موضحا أن الحضارة الإسلامية ليست خاصة بالعلماء العرب أو المسلمين، بل هي سياق متنوع ومفتوح ينتمي اليه حتى يوحنا الدمشقي صاحب أول كتاب نقدي صارم ضد الإسلام. مع انه كان وزيرا للخليفة الأموي مروان.

تستدعي هذه النزعة «النفاتية» المناوئة للإسلام وقفة انتباه ومتابعة، لأنها تتخذ سمة علمية زائفة، وتستولي على واجهة الإعلام الذي يصنع وينشر الصورة النمطية عن العرب والمسلمين.