دعاء الحمد والشكر

TT

نشبت خصومة طويلة عريضة بين شخصيتين كبيرتين ومرموقتين بالمجتمع، وسبب الخصومة في الواقع إنما هو يرجع بالدرجة الأولى لتضارب المصالح المادية.. إلى درجة أن الود بينهما مفقود، والاتصال مقطوع، والحملات الكلامية متواصلة، والعداء مستحكم، بل إنه أكثر استحكاماً مما بين أهل فلسطين وإسرائيل، مع الفارق.

وقدر لي يوماً أن أكون حاضراً في مجلس أحدهما، وإذا برجل يدخل علينا ويعلن الخبر المفاجئ بوفاة خصمه أو غريمه، وتوقعت الفرحة والبهجة من صاحب المجلس، غير أنني لاحظت الامتعاض على وجهه، وأخذ يقول بصوت مسموع: رحمه الله، رحم الله (أبو فلان)، لقد كان رجلا طيبا وهو خسارة كبيرة على المجتمع.

وما هي إلاّ ربع ساعة تقريباً، وإذا بمراسل لإحدى الصحف يأتي ليسأله عن شعوره ووقع الخبر عليه، ويريد أن يعرف رأيه بخصمه المتوفى، وقبل أن يفتح الصحفي جهاز التسجيل، وإذا بالرجل يستدرك ويسأله:

ـ هل شهادتي وكلامي الذي سوف أقوله للنشر؟!

ـ نعم، وسوف ينشر غداً في الصحيفة.

ـ إذن أرجوك انتظر قليلا.

وإذا به ينادي على وكيله المؤتمن قائلا له بصوت مهموس بالكاد أن يسمع وقال له: اعمل اتصالاتك سريعاً لتتأكد تماماً إن كان خبر موت (أبو فلان) مؤكداً أم أنه إشاعة أو خدعة ـ خصوصاً ونحن في أول شهر أبريل ـ والواحد (ما يعرف رأسه من رجليه)، وأخشى أنهم سوف يورطونني بكلام سوف يستغله هو لو كان لا زال على قيد الحياة، ثم أندم في ما بعد حيث لا ينفع الندم على كلام تفوهت به.

ثم قال للصحفي: انتظر قليلا إذا سمحت، وأمر الخادم أن يصب للصحفي قهوة.

وما هي إلاّ عدة دقائق وإذا بالوكيل يسر بأذنه ويأتي له بالخبر اليقين أن خصمه قد (اتكل على الله)، عندها تنفس الصعداء ثم اهتز في مقعده قليلا (وتنحنح)، وأشار للصحفي بيده أن يقترب.. ثم تكلّم بصوت متهدّج حزين يقطّع نياط القلب وقال: رحم الله (أبو فلان)، الله المستعان لقد كان رجلا ولا كل الرجال، صحيح أنه كانت بيننا (اختلافات بوجهات النظر)، ولكنها كانت على الدوام اختلافات لا تُفسد للودّ قضية، وهي كلها من أجل (المصلحة العامة)، ولكنكم مثلما تعرفونني، فروحي كانت ولا زالت وستظل على الدوام رياضية، وأنني مَن ينصف الخصوم، وأنني أقول الحق حتى على نفسي.

ومن حسناته رحمه الله أنه فعل (كذا وكذا وكذا) ـ وأخذ يعدد ما شاء له أن يعدد من حسنات ـ وختم كلامه مؤكداً أنه سوف يذهب بنفسه معزّياً أبناء الفقيد الذين يعتبرهم بمثابة أبنائه.

وكنت طوال الوقت أستمع إلى هذه الكلمات مشدوهاً وغير مصدّق لما أسمع، فكيف يا سبحان الله انقلب ذلك (الأحمق المخادع الطمّاع) عندما كان لا زال حياً، كيف انقلب بغمضة عين عندما مات إلى (الرزين والأمين والقنوع)؟!.. وكيف تحول الكلام الذي كان يُقال فيه إلى ما قبل يوم واحد بأمضى (مما قاله مالك بالخمر)، كيف تحول ذلك الكلام الآن إلى غزل وأبيات شعر وترحّمات؟!

وما أن انتهى من (مرثيّته) الكلامية حتى قال للصحفي بتعطف: لا أوصيك.. اجعل شهادتي بالمرحوم في مكان بارز وبالخط العريض، شكره الصحفي وخرج.

وإذا به ينادي على وكيله ثم يخرج من جيبه رزمة من الأوراق النقدية ويطلب منه أن يلحق بالصحفي قبل أن يركب سيارته ويعطيه إياها على أساس أنها (حق الشاهي)، وفي نفس الوقت (يحرّصه) على الخبر.

ثم رفع كفيه للسماء وأخذ يدعو بينه وبين نفسه، ولم أسمع ماذا كان يقول.

وهناك احتمال أنه دعاء حمد وشكر.

[email protected]