البشرية تبحث عن مخرج.. والقساة والمداهنون يشوشون على الإسلام

TT

«توقعوا ظهور (الرجل الأخير)، وهو رجل أو إنسان استحوذت عليه المادية والرفاهية بإطلاق، وعجز عن الاهتمام بأي قضية سامية، بيد انه سينقرض هذا الكائن، ويظهر على اثره إنسان ذو معايير صحيحة، وذو قيم عقلية وشعورية راقية».. نيتشه.

لنتفق على هذا ـ في البدء ـ، فليس يحتمل الحديث عن مصائر البشرية: غموضا، ولا جهلا، ولا غشا، ولا خداعا، ولا مغامرة، ولا مقامرة. لنتفق على أنه ليس وفيا للأسرة البشرية، ولا وثيق الانتماء إليها، ولا حريصا على سلامة مستقبلها: من لا يصدقها ويمحضها النصح (بمفهومه الموضوعي والأخلاقي الرحب).. وأول معايير النصح الحضاري الإنساني الصدوق: أن يكون واضحاً جدا، وأن يكون في الغور والعمق واللبس ـ لا في القشرة والسطح ـ ابتغاء النهوض الجديد بالبشرية على أسس صحيحة راسخة: أدق وأعمق ما تكون الصحة، ويكون الرسوخ. ويتطلب هذا المنهج: النفاذ الثاقب: من رصد ظواهر الأزمات ومظاهرها: إلى أسبابها الدفينة، وعللها بعيدة الغور.

في مقال الأسبوع الماضي: استعرضنا أربعا من الأزمات الكبرى التي تضرب البشرية في نسيجها البيلوجي والنفسي: الفردي والجماعي: في الحاضر والمستقبل، والأزمات الأربع هي: أزمة الغذاء العالمية.. وغلاء الأسعار.. والعد التنازلي لقيمة أهم العملات التقليدية.. وفساد مناخ كوكب الأرض. وقلنا: إن هذه الأزمات (العملاقة) نشأت أو استفحلت في ظل قادة وزعماء (أقزام).

بيد أن تلك الأزمات ـ ومثلها معها وأكثر ـ. وان فشل القيادات الكسيحة في علاجها.. هذا وذاك إنما هو (ظاهر السطح أو المسرح).. أما أسباب ما تعانيه البشرية اليوم من هم وغم وكرب وأزمات تُشَّقَّق ـ كما الخلية ـ: واحدة، اثنتان، أربع، ثماني، ست عشرة، اثنتان وثلاثون الخ.. الأسباب والعلل الدفينة وراء الأزمات والمشكلات: الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية هي ـ بالتحديد ـ (مجموعة من النظريات الخاطئة المتهافتة) التي تحكمت في سلوك البشر ومصائرهم حقبا طويلة متتابعة (دون اقتناع أو تصويت من معظم الذين مست حياتهم بالضر في هذه الصورة أو تلك).

ومما طوّل عمر هذه الأسباب والعلل:

أ ـ أن الأسرة البشرية ـ في مجموعها ـ لم تعط نفسها فرصة لمراجعة هذه النظريات والمفاهيم المتهافتة.

ب ـ ان هذه النظريات أحيطت بهالة من (القداسة) سُفِّه بسببها نقّاد هذه النظريات، واتهموا بأقبح النعوت!

لكن الإنصاف يوجب التصريح بأن الأمهات لم يصبن كلهن بـ(العقم)، بدليل أن هناك ـ منا نحن البشر ـ من جهر ولا يزال يجهر بـ(ضرورة التحرر): الفكري والاجتماعي والاخلاقي من (أغلال) النظريات والمفاهيم المتهافتة.. ولنضرب بذلك مثلين قريبين غير بعيدين:

1 ـ كسر ديفيد كاميرون (زعيم حزب المحافظين «البريطاني») حاجز الصمت الاجتماعي والفكري والأخلاقي في بريطانيا في أوائل هذا الشهر (يوليو)، وانتقد (النظريات أو المسلمات الوهمية) التي حظيت بقداسة اجتماعية عجيبة.. ومما قاله كاميرون: «يجب وضع حد لـ(الحيادية الأخلاقية) التي يعيشها المجتمع البريطاني فتجعله يرفض التمييز بين الخطأ والصواب.. علينا أن (نتحرر) من الخوف من تسمية الخطأ: خطأ، والصواب: صوابا.. ولقد حدث معي أن اضطررت لانتقاء كلماتي: مراعاة لمشاعر الناس، ثم أدركت ان هذا هو عين الخطأ، بمعنى أننا اصبحنا حساسين بدرجة مبالغ فيها من حيث فشلنا في أن نجهر بالحق ونقول ما ينبغي قوله، وذلك لكي لا نجرح شعور أحد.. إن مجتمعنا عبر العقود الاخيرة يعاني من التآكل في الاحساس بالمسؤولية واستشعار الفضيلة، واستقامة النفس والسلوك، لا بد من انهاء هذا الصمت المفسد».. ولم ينحدر المجتمع البريطاني الى هذا المستوى الاجتماعي والاخلاقي المرعب إلا من خلال (نظريات تربوية واجتماعية)، لم تكتف بتزيين الاخطاء والانحرافات، بل عمدت الى (تحطيم المعيار) الذي يميز بين الخطأ والصواب.

2 ـ المثل الثاني الشجاع هو (تحول) فرانسيس فوكوياما صاحب كتاب او نظرية (نهاية التاريخ).. ففي نشوة فكرية او تاريخية تعجل فوكوياما بـ (قفل باب الاجتهاد): السياسي والاجتماعي، وذهب يقلد غلاة الماركسيين في القول بـ (الحتميات) التي لا تخطئ. فقد زعم ان التطور التاريخي البشري ـ الفكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي ـ قد بلغ تمامه بانتصار الرأسمالية والديمقراطية على الشيوعية التي انهارت بانهيار رمزها الضخم (الاتحاد السوفيتي).. كانت هذه (خطيئة غليظة) من مفكر نابه في قامة فوكوياما. بيد أنه من أمانة الانصاف للرجل: الشهادة له بأنه (صاحب فضيلة فكرية): ندر ان يتحلى بها مثله من المفكرين في عالمنا وعصرنا: فضيلة (النقد الذاتي)، بصراحة وسفور: ـ بُكْرةً ـ أي على عجل، وفي غير بطء متثائب او مكابر.. فبعد قليل من صدور كتابه ذاك: تراجع فوكوياما عن فكرته او نظريته عن (نهاية التاريخ).

على ان هذه (الفضيلة الفكرية الحضارية) في المراجعة أو التراجع ـ حُرِمها كُثْر من اصحاب النظريات التي وجهت مصائر جموع هائلة من البشر، ولا تزال توجههم، وهي نظريات تسببت ـ بلا ريب ـ في الازمات والمشكلات التي هدّت عافية الناس، وأفسدت عليهم طعم حياة ماتعة طيبة كانوا سيتمتعون بها في غيبة هذه النظريات ونظائرها.. وليس يتسع المقال لاستقراء هذه النظريات التي حكم اصحابها البشرية وهم في قبورهم. ولذا نمثل لها بست وهي: الرأسمالية المستبدة القائمة على انقاض (حقوق الانسان) والتي بدل ان تصلح نفسها، طفقت تمعن في التلاعب بالعقول عبر التبدي في صور جديدة مثل (العولمة).. والماركسية التي خابت في تفسير التاريخ، وفي معالجة الواقع والمستقبل.. والعلمانية التي (تكفّر) الناس وتعجز ـ في الوقت نفسه ـ عن اعطائهم (بديلا) للكفر ـ والديمقراطية اللعوب الكذوب التي تفصل (الشكل الانتخابي)، أي الاحتيال على الظفر بأصوات الناس: تفصل هذا الشكل الخادع: عن هموم الناس في الغذاء والكساء والدواء والتعليم والمسكن وشتى الحاجات والضرورات.. والنظرية النفسية الفرويدية التي عَدّت الانسان (مريضا) بالفطرة، وزادته مرضا بوصفات فاسدة.. و(الداروينية الاجتماعية) التي (تفلسف) السلوك البهيمي للانسان، وتؤصله على (أصل بيولوجي).. نعم.. هذه النظريات والمفاهيم هي الأسباب الدفينة وراء الأزمات العاتية التي تضرب البشرية: وراء الأمراض النفسية النشطة في التناسل، ووراء التصدع العنيف في الخلية الأساسية للمجتمع البشري (الأسرة)، ووراء الاباحية الجنسية التي أصبحت تجارة عالمية، ووراء المظالم الاقتصادية والمجاعات التي توشك أن تتسبب في ثورة فوضوية عالمية، ووراء الأكاذيب السياسية في الحرب والسلم، ووراء (التحجر الفكري) الذي يقفل باب الاجتهاد السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

والناس ثلاثة بازاء هذه (المعضلة البشرية) فهم: إما مجرم يصر على الابقاء على هذه الأوضاع التعيسة كما هي: بدافع التحجر الفكري، أو الكسب المادي.. وإما أحمق يزيد الوضع بلاء بالعنف والفوضى.. وإما عاقل يكدح في (البحث عن مخرج).. ونحن مع هذا الثالث العاقل الصادق الانتماء الى البشرية.. على أنه ينبغي ترسيخ اليقين المعرفي بأنه لا علاج لهذه الأزمات الا بمعالجة اسبابها الدفينة، أي النظريات المتهافتة (ولا نقول المتآمرة)، والا فإن المخرج الصحيح المطلوب سيظل في حالة عدم، ذلك أن أول خطوة في طريق المخرج المضمون المأمون هو (التحرر الباسل) من أغلال تلك النظريات والمفاهيم.

وإذا كان (الآخر) قد عجز، بل تسبب في اتعاس البشرية في المجالات غير التقنية (ونشهد له بالاسبقية والفضل في هذا الحقل التقني)، فهل لدى المسلمين ما يقدمونه للبشرية المحزونة المكروبة؟.. من ناحية أن الاسلام (هدى للناس أجمعين) فإن هذا أمر موكد ويقيني: بحكم عموم رسالة الاسلام، وبحكم (عصمة كلمة الله) من التبديل والتحريف. لكن هل اجتهادات المسلمين ترقى الى مستوى مطالب البشرية اليوم؟.. الجواب بالتوكيد: لا.. لا.. لا.. وينبني على هذه الحقيقة: أن يعكف القادرون من المسلمين على طرح رؤى ونظريات ومفاهيم واجتهادات جديدة وصائبة وانسانية تنقذ أو تسهم في انقاذ البشرية مما تعانيه.. وإلى أن يتحقق هذا الواجب الضخم يتوجب مناهضة الذين يشغبون على الاسلام ـ من الاباعد والاقارب ـ بسبب جنايتهم المتمثلة في التشويش على المنهج الذي يسعف البشرية بما تحتاج اليه من صحة نفسية وعقلية وأخلاقية واجتماعية.. الخ، كما يتعين الكف عن (مداهنة الآخر) ـ الذي تسبب في المأساة ـ تحت هذا العنوان أو ذاك، فإن (تمييع) الحل: جريمة ضد الإنسانية.