أفريقيا بين قمتين.. وأحلام الماضي لمشاريع المستقبل

TT

حصلت افريقيا من قمة الثماني في جزيرة هوكايدو على اضعاف ما عجزت ـ او تعاجزت ـ قمة شرم الشيخ الافريقية عن تقديمه. انحازت قمة اليابان لشعب زيمبابوي بإحالة اوراق ديكتاتورية روبرت موغابي الى مفتي مجلس الأمن لاستصدار عقوبات تتضمن حظر تصدير السلاح الذي يستخدمه في قمع شعب زيمبابوي.

نظام العقوبات المقترح من بريطانيا يستهدف رأس ديكتاتورية هراري، اي الرئيس وزوجته جريس (التي تذهب لباريس وروما في المواسم الاربعة لاقتناء احدث الازياء) وبقية اسرته العصابة الاوتوقراطية وحاشية من 14 شخصا من قادة (الزانوا) الحزب الوطني الاتحادي الافريقي الحاكم وزوجاتهم وابنائهم، بمنع دخولهم البلدان المتحضرة.

توقيت مشروع القرار البريطاني مناسب، اذ سيصعب على الصين استخدام الفيتو ضده، عشية افتتاح اوليمبياد بكين، خشية مقاطعة اغلب الرياضيين له.

عقوبات مجلس الامن ستسهل اقتفاء اثر اموال شعب زيمبابوي التي نهبها الرئيس وزوجته وزعماء الحزب الوطني الافريقي الحاكم. فاولادهم يدرسون في جامعات اوروبا وكندا واستراليا، ويمكن تسجيل مصدر الاموال التي يرسلها «بابا» صاحب النفوذ السياسي اليهم، وبالتالي تجميدها عند الحاجة بأمر قضائي. القرار سيتيح لمواطني زيمبابوي المهاجرين لبلدان تخضع لسيادة القانون، استصدار اوامر قضائية تكلف الانتربول باعتقال زبانية وضباط أمن موغابي وناشطي الحزب الحاكم اذا غادروا زيمبابوي.

وبينما اكتفت شرم الشيخ بالشعارات المعتادة، نجحت هوكايدو في دعم شعوب افريقيا ماديا بستين مليار دولار لخمس سنوات في مجالات الصحة والتنمية.

ألح رئيس الوزراء غوردن براون على القمة بوعود قمة غلانيغل، التي استضافها سابقه توني بلير 2005، من شطب ديون، وتوفير مائة مليون خيمة معالجة كيماويا للحماية من البعوض قبل 2010، توفر بريطانيا وحدها 20 مليونا منها.

ووعد رئيس الوزراء الياباني ياسيو فوكودا بتنظيم قمة لـ40 من الزعماء الافارقة لدعم التطور والتنمية التي تحتاجها القارة.

والقول الصيني «اعطي رجلا سمكة، توفر له وجبة؛ علمه كيف يصطاد بنفسه، تطعمه مدى الحياة»، ينطبق على حالة افريقيا. فالتنمية وبناء صناعات افريقية تخلق فرص عمل افضل على المدى الطويل من الشعار الساذج «شطب ديون القارة»، الذي يروجه اليسار.

شطب الديون هو اعطاء الزعماء ماركة موغابي «سمكة» مجانية يلتهمونها، ويلجأون للبنوك لقروض جديدة تنتهي في حساباتهم السرية في سويسرا، وتتجدد دورة ديون تدفع الشعوب فوائدها ولا تتعلم كيف تصطاد طعامها بنفسها.

قمة الـ40 التي يدعو اليها فوكودا ستكون عن الاستثمار والتنمية وستكون فرصة تاريخية لمصر للتوسع اقتصاديا في افريقيا، واضاعة هذه الفرصة جريمة لا تغتفر.

وعي الدبلوماسية المصرية بافريقيا اليوم دون مستوى ساسة عصر النهضة الحديثة، كرئيس وزراء مصر ما بين 1908 و1910 بطرس باشا غالي (1846-1910)، الذي نسق المصالح المشتركة مع بريطانيا في نهاية القرن 19، فوسع وأمن مصالح مصر في حوض النيل.

سياسة مصر الافريقية اليوم لا ترقى لدبلوماسية الملكة حتشبسوت

(1479ق.م-1458 ق.م) في تأمينها مصالح مصر النيلية باخضاعها القرن الافريقي لسيادتها، خاصة التجارة.

تكلفة طن الحبوب المستورد من امريكا في غانا تقل عن نصف ثمن شرائه من كينيا الاقرب جغرافيا، لغياب المواصلات البرية. وكان سيسيل رودس (1853-1902) ـ الذي سميت روديسيا باسمه ـ نادى الى مشروع سكة حديد القاهرة ـ كيب تاون.

ورغم تكراري السؤال لسنوات على الساسة الافارقة، وفي مقدمتهم المصريون، عن عدم تنفيذ مشروع رودس، لا أتلقى جوابا.

الامر ببساطة لا يخطر على ادمغتهم، التي هي ثمار اطماع الكولونيل جمال عبد الناصر (1918-1970) وايدولوجيته القومجية العربجية فظنوا مصر بضعة مئات الاميال شرقا عن موقعها الجغرافي في افريقيا.

واجب ساسة مصر اليوم تحديث مشروع رودس على مراحل. الاولى مد السكة الحديد من مرسى مطروح غربا الى كازبلانكا، باصلاح ما بقي من خط الساحل الليبي المدمر في الحرب العالمية الثانية، وتوصيل السكة الحديد المصرية من اسوان والشلال الى جنوب السودان.

المصانع المصرية ستنتج ملايين الاطنان سنويا من قضبان السكة الحديد والعربات؛ وبالمشاركة مع جنوب افريقيا، التي ستصنع القاطرات، تمد بريتوريا مرحلتها الاولى من كيب تاون شمالا عبر نامبيا وبوتسوانا الى زامبيا والتفرع شرقا لتنزانيا وغربا لانغولا.

الجيل البيروقراطي المتخرج من سوفيتات عبد الناصر مرجعيته الاقتصادية «ماما» الدولة، سيتحجج ساسته بفقر ميزانيتها. الحجة مضحكة.

فلماذا لا تصدر سهم شركة سكة حديد افريقية لتمويل المشروع العظيم وسيكون الاهم منذ اصدار اسهم قناة السويس في ستينات القرن 19. وسيتهافت المستثمرون لشرائها من انحاء العالم، خاصة من بلدان افريقيا التي لا منفذ بحريا لها.

رسوم الدمغة فقط من بيع الاسهم وتداولها سيدخل للخزنة المصرية الملايين سنويا، ناهيك من تشغيل مئات الالاف وتنشيط التجارة والانشاءات والصناعات المكملة، ويطلق مشروعان آخران لا يقلان طموحا.

خط التلغراف الموازي لسكة حديد القرن 19، يصبح في القرن 21 خط الاتصالات من الالياف الزجاجية وخط كهرباء ضغط عال من سد اسوان العالي وكهرباء من شلالات اعالي النيل، لتصدر عبر مضيق جبل طارق الى اوروبا المتعطشة للطاقة.

ثانيها احياء حلم الراحل الملك الحسن الثاني (1929-1999)، ببناء جسر او نفق يربط افريقيا باوروبا. وعندما يجد المستثمرون بضاعة ومسافرين جاهزين للنقل على طرفي الجسر، سينفقون المليارات لبنائه طمعا في عائد مستمر من رسوم العبور، وهي جزء بسيط من تكاليف الشحن الحالية بحرا وجوا.

الصيانة والخدمات ستخلق الاف الوظائف في اكثر من 15 بلدا افريقيا

وفور اكمال اي جزء وتسيير اول قطار سترتفع قيمة الاسهم وتزيد ثقة اصدار اسهم جديدة لتمويل مرحلة مشاريع توليد الكهرباء وخطوط تصديرها لاوروبا.

المرحلة الثالثة وهي ربط جنوب السودان بهضبة البحيرات، ثم مدها من اوغندا لكينيا لتلتقي في تنزانيا بخط كيب تاون، ثم تتبعها مراحل مد الخط بعرض القارة، ثم بطوال الساحل الشرقي، ثم الساحل الغربي.

الشرط إبعاد الدولة انفها عن المشروع الذي يلتزم بقوانين السوق الحر وتقتصر على وضع حد اقصى لنسبة الاسهم المملوكة للمستثمر الواحد.

منع الدولة من التدخل سيقفل باب «استرزاق» الزعماء وأسرهم وابطال «حروب التحرير» من نهب ميزانيات المشاريع، وسيزيد من استقلال التيارات السياسية التي تعبر عن المصالح الاقتصادية التي ستكون اكثر استنارة من الاقتصاد القبلي العشائري في افريقيا او الاقتصاد الستاليني المعروف بالقطاع العام.

هذا هو الحل العملي للاجيال المقبلة في افريقيا، وليس المسكنات التي يصفها اليسار في شكل شطب الديون التي يسرقها ديكتاتور افريقي كل بضعة اعوام.