الانتحاريات في العراق: الاستثمار في اليأس

TT

مع تفاقم الازمة التي تعيشها القاعدة في العراق بسبب تراجع التمويل وانخفاض عدد الانتحاريين الاجانب القادرين على عبور الحدود وانقلاب معظم الحاضنات الاجتماعية التقليدية على هذا التنظيم، طفت الى السطح ظاهرة الانتحاريات لتعبر عن ازمة القاعدة كما الازمة الثقافية والقيمية لمجتمعاتنا التي بفضلها صار للقاعدة وجود وتأثير.

لقد بلغ عدد الانتحاريات اللائي فجرن انفسهن في الاونة الاخيرة في محافظة ديالى وحدها (12) انتحارية وهنالك احصاءات تشير الى ان من بين كل 4 عمليات انتحارية في الاشهر الاخيرة هناك 3 تنفذها نساء، اما خلفية الانتحاريات فهن جميعا يتحدرن من مناطق ريفية حيث المرأة تواجه حالات من الانتهاك لكرامتها وادميتها وتعامل بقدر عال من الامتهان والاستغلال، وكانت اشهر الانتحاريات «القاعديات» العراقيات هي ساجدة الريشاوي التي شاركت في عمليات نوفمبر 2005 في عمان وهي بائعة خضروات لا تمتلك اي حظ من المعرفة او الانخراط بنشاط سياسي وقد تزوجت قبل ثلاثة ايام من العملية وزوجها احد اعضاء التنظيم. وكانت اولى مظاهر استغلال النساء في العمليات الانتحارية قد شهدتها الشيشان عبر ظاهرة الارامل السوداء ومعظمهن نساء لافراد قتلوا خلال المعارك مع القوات السوفيتية وتم استثمار اوضاعهن الحياتية اليائسة اثر ذلك لاقناعهن بـ«اللحاق» بازواجهن الى «الجنة»، وهي في الغالب وسيلة الاقناع الاساسية لاسيما في حالة الانتحاريات العراقيات اللاتي تشير المعلومات المتوفرة ان معظمهن لا يمتلكن خلفية دينية يعتد بها، وفي الغالب انه ليس قرارهن بل فرض عليهن عبر الترغيب والتهديد والخداع وغسيل الدماغ.

ان هذه الظاهرة تعكس اقصى درجات الامتهان للمرأة كما تعكس مستوى الانحدار الاخلاقي الذي يمكن ان يصله هذا التنظيم فضلا عن البيئات التي مازالت تبدي استعدادا لتقبل هكذا سلوك، الكثير من النساء في تلك المناطق تم ارغامهن على الزواج من امراء القاعدة من قبل ابائهن او اخوانهن المنضوين في التنظيم وكأن هؤلاء الامراء لا يريدون الاكتفاء بالسبعين حورية اللائي سيحصلون عليهن بعد «الشهادة» فلا يستطيعون ان يقاوموا كبتهم المتأصل فينكبون معهم في رحلتهم من مجهول الى مجهول نساء بريئات تصبح ضريبة زواجهن فقدان هذه البراءة واتباع ازواجهن في رحلة الموت التي تبدأ لحظة الزواج ولا تنتهي بموت الزوج بل يفترض بالمرأة ان تلحق به الى حيث يعتقد انه ذاهب. ان القاعدة في هذا السلوك تتجاوز حتى ما تعتبره مرجعيتها اي الدين الاسلامي الذي يفترض تكريم نساء وابناء «الشهداء» وانزالهم منزلة في الحياة توازي حجم تضحية رب الاسرة، لكن هذا التنظيم في افلاسه المتواصل الذي لا يعبر عنه الا بنوع من التطرف في الشراسة الاجرامية يصر على اعطاء «النموذج» حول اسوأ ما يمكن ان يكون عليه توظيف الدين.

انه استثمار في اليأس اطاره الجحيم الذي تعيشه المرأة في مثل هذه البيئات الاجتماعية ممتهنة منبوذة يتم استغلالها بشتى السبل والتعامل معها كملك صرف لرجال لا يتفوقون عليها الا بقدرة عضلية. اليأس الذي تبلغه مع فقدانها من يعيلها وخضوعها اللاإرادي لغسل الدماغ من قبل التنظيم لا يترك لها املا في الحياة ومخرجا سوى الموت من اجل اشباع النزوع المرضي لهؤلاء الجهلة باعلان وجودهم المقيت .

في بعض الحالات كان تردد المرأة خلال العملية يدفعهم الى تفجيرها عن بعد، الامر الذي يؤكد مدى امتهانهم لها ولحقها باتخاذ القرار وهو موقف سبقوه بتفجير بعض الحيوانات عن بعد ثم في تفجير نساء متخلفات عقليا في سوق الغزل ببغداد في حادثة لم تواجه للاسف برد الفعل المناسب والتحليل الكافي لكنها تؤكد تماما كم ان هؤلاء لا يعطون اي قيمة لحياة الناس فكل شيء هو هدف مقبول و«ترس» يبرر استهدافه في سبيل تحقيق غاياتهم التي زادتهم ابتعادا حتى عن الذين برروا في لحظة جهل او خضوع لانحياز عاطفي وجودهم ونشاطهم في العراق. بالطبع هم يعتبرون النساء كما الحيوانات كما المتخلفات عقليا كائنات حية اقل قيمة منهم وبالتالي قابلة لان تصبح موضوعا لاستغلالهم و«ادوات» لعملياتهم تساعدهم في التعويض عن ما حصل من نقص عددي لهم وفي تكتيكات معينة تستغل مثلا حقيقة ان الشرطة غالبا ما تتحفظ في التعامل مع المرأة بسبب تقاليد اجتماعية وعواطف دينية الامر الذي يقلل امكانية احتمال تفتيشها او اعتقالها عند الشك بها. ان معظم النساء قد فجرن انفسهن طوعا او كرها في عمليات لا تحمل اي قيمة نوعية بالنسبة للاهداف المعلنة لهذا التنظيم ولم تؤد اي من تلك العمليات الى مقتل جندي امريكي واحد بل في الغالب كانت توجه نحو ابناء جلدتها ومدينتها وربما قريتها بما يجسد حقيقة انها بالنسبة لأولئك العدميين لا تحظى بقيمة اكثر من القنبلة التي تحملها والحزام الذي ترتديه.

في عام 1978 اختارت دلال المغربي الشابة الفلسطينية القيام بعملية فدائية اصبحت بفضلها نموذجا للمرأة صاحبة القرار المستقل التي تسعى حتى وهي تخاطر بحياتها خدمة الحياة، عملية دلال لم تكن انتحارا مرده اليأس بل سلوكا مصدره السعي لحياة افضل من اجل شعبها.

ان المرأة كانت على الدوام رمزا للحياة، صورتها مختلف الحضارات مثالا للخصوبة او للامومة او الاستمرارية لا مصدرا لنثر الموت والقتل عبر جسدها، فهي مع القاعدة صارت رمزا للمذلة وتجسيدا متطرفا لحرمانها ليس فقط من حق الحياة الحرة بل وايضا من حق الموت الطبيعي. ان ذلك وان عبر عن ازمة هذا التنظيم الظلامي، فانه يعبر ايضا عن ازمة ثقافية واخلاقية تعيشها مجتمعاتنا تتطلب تحركا من المثقفين وعلماء الاجتماع ورجال الدين المعتدلين، تحركا لا يكتفي فقط بإدانة السلوك دون الفكر الرابض وراءه، ولا يجعل من الإدانة فعلا مجردا دون تأطيره ببرنامج توعوي واضح ينتشل المرأة من بؤس اخر اختارته القاعدة لها، بؤس ان تصبح ملكا للظلاميين في حياتها وموتها.