ما الذي يريده الرئيس محمود عباس؟

TT

طرح الرئيس محمود عباس مبادرة للحوار الفلسطيني ثم ارتد عليها. استغرق اطلاق المبادرة بضع دقائق، ولكن الارتداد على المبادرة استغرق حتى الآن أياما وأسابيع. كانت المبادرة مختصرة وموجزة، ولكن الارتداد عليها تضمن توضيحات واشتراطات واقتراحات تستطيع اغراق المبادرة في بحر من الكلمات.

ما الذي يريده الرئيس محمود عباس؟

انه أول رئيس يرفض انضمام الناس إليه. قبله كان الرئيس الراحل ياسر عرفات يمارس سياسة أخرى. كان هو الذي يسعى الى الناس لينضموا اليه داخل اطار منظمة التحرير الفلسطينية. فعل ذلك منذ أن تسلم قيادة المنظمة مع بداية عام 1969، وبقي على هذه الحال حتى وفاته، وحيث كان يوجد معارض ما، كان عرفات يسعى اليه، ويدعوه إلى ممارسة معارضته من داخل منظمة التحرير. تكونت المنظمة في البداية (فصائليا) من حركة فتح ومن تنظيم الصاعقة، ثم انضمت اليهما بعد أشهر «الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين». أما «الجبهة الشعبية» فكانت ترفض سياسة المنظمة وتعارضها، وظل عرفات يسعى اليها الى أن أقنعها بالدخول في اطار المنظمة ومواصلة المعارضة من داخلها، وقد دخلت الجبهة الشعبية الى رحاب المنظمة (12 عضوا في المجلس الوطني) ثم خرجت منها وأصبحت على رأس «جبهة الرفض» بعد إقرار برنامج النقاط العشر الذي شكل بداية مسيرة التسوية السياسية، وظل عرفات يلاحقها رغم ذلك، ويدعوها الى البقاء داخل اطار المنظمة وممارسة المعارضة من داخلها. أحياناً كانت الجبهة الشعبية تقتنع وتعود، ولو بتمثيل رمزي، عضو واحد في المجلس الوطني هو المناضل أحمد اليماني/ أبو ماهر أمد الله في عمره. وكان هذا الصوت المنفرد يملأ الساحة الفلسطينية المعارضة، مؤمنا بأن المهم هو الموقف وليس عدد المندوبين من حوله. ونجح عرفات في هذه السياسة، ودخلت جميع الفصائل الى رحاب المنظمة، واصبح عددها اثني عشر فصيلاً، كل فصيل له رأي، وكل فصيل له اتجاه، وكل فصيل له ارتباطاته الخاصة، ومهمة «المايسترو» ياسر عرفات أن يضبط التناقضات ليستخرج منها موقفا واحدا موحدا، يصبح في النهاية هو الموقف الرسمي، موقف منظمة التحرير الفلسطينية. كانت مهمة متعبة وشاقة، وكان عرفات يمارسها بتعب ومشقة، ولكنه لا يتخلى عنها. حين بدأت علاقات منظمة التحرير الفلسطينية الرسمية مع الاتحاد السوفياتي منذ مطلع السبعينات، كان عرفات يحرص على اختيار وفد منسجم لكل زيارة. واحتجت الفصائل الاثنا عشر مع الزمن، وطلبت ان تكون ممثلة في الوفود الرسمية الذاهبة الى موسكو. وقد استجاب ياسر عرفات الى طلبها، وشكل وفدا منها جميعا برئاسته، وذهب به الى عرين الدولة العظمى، وكان الكل يتساءل كيف سيدير عرفات مفاوضات مع دولة عظمى، ومعه وفد يعارض كل سياساته؟ أذهل عرفات القادة السوفيات حين طلب من اعضاء الوفد ان يتحدثوا واحدا وراء الآخر، وضج القادة السوفيات حين سمعوا اثنى عشر رأيا، وكل رأي يناقض الآخر أو يختلف معه. وأخيرا تحدث ياسر عرفات، وقال للقادة السوفيات. لقد تعمدت أن تسمعوا رأي زملائي جميعا، لكي تدركوا مدى الجهد الذي أبذله لكي آتي اليكم في النهاية برأي فلسطيني رسمي متفق عليه. وأثارت هذه الملاحظة اعجاب السوفيات، الذين كانوا يشرحون لعرفات مؤكدين أهمية الوحدة الوطنية، وأهمية الجبهة الوطنية، في معركة التحرر من الاستعمار والاحتلال.

بعد عام 1982 نشأ وضع فلسطيني جديد. ولدت الانتفاضة الفلسطينية في الداخل، وسقط الاتحاد السوفياتي، وولدت تنظيمات فدائية جديدة خارج اطار منظمة التحرير الفلسطينية واصبح لها نفوذ شعبي كبير (حماس ـ الجهاد الإسلامي)، وكان لهذه المنظمات الجديدة برنامجها المتناقض مع برنامج منظمة التحرير (اتفاق اوسلو). ودار الزمن دورته في اطار برنامجين متناقضين، وفاز المعارضون لبرنامج منظمة التحرير بالانتخابات الفلسطينية التشريعية، وأصبح من حقهم تشكيل الحكومة الفلسطينية، وشكلوها كحكومة للجميع برئاسة اسماعيل هنية (حكومة حماس الأولى)، ثم شكلوها كحكومة وحدة وطنية (حكومة اتفاق مكة).

داخل هذه التطورات الكثيفة والمتلاحقة، حدث تطور هام، فكثيرا ما عرض عرفات على حركة حماس ان تنضوي داخل اطار منظمة التحرير الفلسطينية، وكانت هي ترفض ذلك، الى ان عدلت موقفها، ووافقت على دخول منظمة التحرير الفلسطينية من حيث المبدأ، لكنها وضعت اشتراطات عنوانها الاساسي إعادة بناء منظمة التحرير من جديد. وتمت مناقشة هذا الأمر كله مع الفصائل مجتمعة، وأسفرت هذه المناقشة عن اتفاق خاص بهذا الشأن عرف باسم (اتفاق القاهرة 2005)، الذي لا يزال ينتظر التحاور والتطبيق حتى الآن.

هذه التطورات كلها، عايشها الرئيس محمود عباس، وهو يعرفها معرفة دقيقة، وربما أكثر منا ومن سوانا، ومعرفته الدقيقة هذه، والتي لا شك فيها، هي التي تدعونا الى طرح السؤال: ما الذي يريده الرئيس محمود عباس؟ انه يدعونا علنا الى ما يلي:

ـ أن تتراجع حركة حماس عن «انقلابها» في قطاع غزة، وان تسلم المقرات والاجهزة الأمنية الى اصحابها (السلطة).

ـ أن تنسى حركة حماس مرحلة انتخابات المجلس التشريعي الأخيرة، وأن تنسى انها صاحبة الاغلبية، وان تنسى انها كانت ترأس حكومة شرعية (مقالة الآن).

ـ أن توافق على الذهاب الى انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة، تأمل فتح من خلالها بالفوز هذه المرة، بعد أن عانى الناس كثيرا من وطأة الحصار على قطاع غزة.

ـ أن يتم تنظيم حوار فلسطيني شامل، حول مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني، يضم جميع فصائل منظمة التحرير، وبرعاية عربية.

ـ وآخر المستجدات في هذا الشأن، اعلان الرئاسة الفلسطينية انها تريد حوارا حول نقطتين فقط: اعادة بناء الاجهزة الامنية باشراف عربي، والذهاب فورا بعد ذلك الى الانتخابات. ويعني ذلك الغاء مطلب الحوار الشامل في اطار منظمة التحرير، ومن اجل اعادة بناء المنظمة.

هذه المطالب المعلنة تعني، ان الرغبة عميقة في التخلص من حركة حماس. التخلص من أغلبيتها البرلمانية والتخلص من شرعية وجودها في الحكومة، أي انها تعني ابعاد حماس عن السلطة وربما تعني في المستقبل «استئصال» حماس، او اعتبارها حركة غير شرعية وربما ارهابية.

لنفترض ان هذه المطالب كلها مقبولة ولنفترض انه تم وضعها كلها موضع التطبيق، فهل يمكن في النهاية الغاء وجود حركة حماس شعبيا؟ الجواب هو قطعا لا. وستكون نتيجة هذه السياسة انقساما حادا في الشارع الفلسطيني، وانقساما حادا في الشارع السياسي، حيث تتواجد منظمة التحرير ذات اللون الواحد في جانب وحركة حماس وانصارها في جانب آخر. ويفتقد الشارع الفلسطيني منظمة التحرير كاطار يضم الجميع، ويفتقد بالتالي صفتها كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني.

المسألة إذاً... وبهذه النتائج المحتملة نظريا، تتجاوز قضية الصراع بين فتح وحماس وتتجاوز قضية «الانقلاب» وتتجاوز قضية حكومة فياض وحكومة هنية وأيهما الحكومة الشرعية.

المسألة هي: هل نريد مؤسسة تمثل جميع الفلسطينيين وتحمل صفة الممثل الشرعي والوحيد أم لا؟

المسألة هي: هل نريد حوارا لاعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية بموجب اتفاق القاهرة 2005، وتكون حماس جزءا منه، أم لا؟

المسألة هي: هل نريد حوارا، ووحدة وطنية وسلطة موحدة، أم لا؟

المسألة هي: هل سنعترف بالتغيرات التي طرأت على الوضع الفلسطيني ونشوء فصائل خارج اطار منظمة التحرير، أم لا؟

ان الاجابة ايجابيا على هذه الاسئلة تقتضي من الرئيس عباس، ان يعود هو بالذات الى تبني مبادرة الحوار التي اطلقها.

والاجابة ايجابيا على هذه الاسئلة، تقتضي من الرئيس عباس ان يتوقف عن العمل اليومي الدؤوب لتدمير مبادرته للحوار، ان لا يكرر مرة ثانية ما فعله في دمشق (وسابقا في صنعاء) فيضع شروطا للاجتماع مع فلان، وشروطا اخرى لرفض الاجتماع مع فلان.

انه الرئيس. وهو رئيس الجميع. المؤيدين والمعارضين. وللرئاسة مسؤوليات لا بد من تحملها ولو بمرارة.