معركة محتملة

TT

ليست هي معركة محتملة بين أميركا وإيران. أو حتى معركة محتملة بين مصر وإيران بعد الغضب الذي أثاره الفيلم الإيراني في الأوساط الثقافية والرسمية والشعبية في مصر، والذي أساء للرئيس المصري الراحل أنور السادات ولمصر والمصريين. المعركة المحتملة التي أتحدث عنها هي نتاج زياراتي لأربع دول عربية في الفترة الماضية، ملاحظا فيها سلوكيات البشر في حياتهم اليومية من سائق التاكسي إلى ضابط الجوازات أو الجمارك في المطارات إلى عامل الاستقبال في الفندق إلى المطاعم إلى الأصدقاء.. في كل ذلك، تجد نفسك أمام احتمالية معركة أو مشكلة رغم أن كل ما تطلبه هو خدمة نظير أجر. في العالم الغربي، تركب التاكسي لتنتقل من النقطة (ألف) إلى النقطة (باء)، تدفع ما يظهر على عداد التاكسي ثم تنزل إلى حيث تريد من دون حوار وأخذ ورد، تقرأ صحيفتك وأنت في المقعد الخلفي أو تقوم بإجراء بعض المكالمات الهاتفية فلا يزعجك السائق ولا تزعجه، هو يؤدي عملا نظير أجر وأنت تدفع الأجر، وإذا ما تعقدت الأمور فهناك قانون واضح يفصل بينكما.

أما في بلداننا، فتركب التاكسي طالبا من السائق أن يأخذك من منطقة إلى أخرى، يقول لك: «هو في الحقيقة مشوارك مش في طريقي، لكن عشان خاطرك سأغير مساري».. إذن ومن أول جملة هو يتكرم عليك بالتوصيلة وليس عملا نظير أجر، وما يتبقى لديك سوى أن تقدم له «التشكرات»، وما أن تصل إلى مكانك حتى تطلب منه أن يقول لك كم الأجرة، لأنه ببساطة لا يوجد عداد في التاكسي أو لأن العداد لا يعمل أو لأن العداد قد وضع في مكان لا يمكنك رؤيته، فينظر إليك ليقول «كلك نظر وانت شايف أسعار البنزين وارتفاع أسعار البترول في الأسواق العالمية، والعولمة، وحوار الحضارات، والدنيا الحر إللي إحنا فيها، واحتمالية الحرب في الخليج، وأنا باجري على كوم لحم»، أي عدد كبير من الأطفال. ثم تقدر سعر المشوار وتدفع له ورقة بنكنوت، متوقعا منه أن يعطيك ما تبقى لك، ينظر إليك ثم يقول بامتعاض شكرا، أي أن هذا أقل مما هو مطلوب ومع ذلك سأقبله.. وأنت تعرف تمام المعرفة أن هذا أكثر بكثير من تسعيرة المشوار، فيغلي دمك، وفجأة يتحول حديث التعاطف والود الذي جرى بينك وبين السائق حول الغلاء والحروب وظلم الحكومات، إلى مشاجرة بينك وبينه. الفارق بين الشرق والغرب هنا، هو أن في الغرب قانونا يفصل بينك وبين السائق، أما في بلاد الشرق فالأمور كلها ضبابية، أمور لا تتحرك في مساحات الأبيض والأسود، أمور كلها رمادية لا يفصل بينك وبين خصمك فيها سوى المارة أو الضغط الاجتماعي والشعبي، أو أن تتنازل عن حقك تماما وتمشي، أو تدخل في معركة لا تعرف إن كنت ستكسبها أم لا!

أما مطاعمنا فهي قصة أخرى، إذ تدخل مطعما فيأتيك النادل المهذب ويعطيك قائمة بالأطعمة التي تتفحصها أنت وأصدقاؤك، وربما بعد مشاورات طويلة، يتفق البعض على أن طبقا ما هو يمثل الوجبة التقليدية للبلد الذي تزوره، ثم يأتي النادل فتقول له نحن نريد كذا فيجيبك ليس لدينا هذا الطلب، تقول مستغربا: ولكنه مكتوب في «المنيو» أي قائمة الأطعمة.. وتدخل مع النادل في حوار عقيم حول لماذا هو موجود في القائمة إن لم يكن موجودا في المطبخ؟. وبعد الحوار يفرض عليك النادل مجموعة ما عنده من وجبات لكي تختار منها وهي لا تمثل ربع ما هو موجود في «المنيو» أو خُمسه، ويحاول أن يقنعك بأن تأكل ما لا تحب وتجد نفسك لحظتها في احتمالية معركة. أما إذا ما كان هناك نقاش مفتوح أصلا بينك وبين أصدقائك على طاولة العشاء أو الغداء، فإن النادل لن يتردد أبدا في أن يدخل طرفا «ساخنا» في الحوار بينما هو يرص صفوف الحمص والفول من فوق الرؤوس، ويدخل بشرح طويل حول الظروف الاقتصادية والصراع العربي الإسرائيلي ومقتل الحريري وقضية مزارع شبعا، لتضرب أخماسا في أسداس محاولا أن تفهم علاقة السلطات بمزارع شبعا، إلا إذا كان الخضار يأتي من تلك المزارع! ومحاولا أن تفهم ما هي علاقة عدم وجود ما هو مكتوب في قائمة الطعام باغتيال الحريري!

ويا ليت القصة هي قصة معركة محتملة مع النادل في المطعم فقط، فالمعركة محتملة مع ضيوفك أيضا. خصوصا إذا ما تطرق الحديث إلى ما يمكن تسميته بالتخندق الاجتماعي، أي إذا تخندق البعض في الخندق الناصري، أو القومي أو المناصر للحق الفلسطيني، وكأن الجالسين الآخرين على الطاولة هم وفد إسرائيلي! وقد يعلن أحد الضيوف بسذاجة أنه رافض للتطبيع، في الوقت الذي لا نعرف فيه من يمتلك الأسهم الكبرى في الشركات العابرة للقوميات، أو الشركة القابضة لسلسلة الفنادق العالمية التي يتمتع فيها صاحبنا بشرب الشيشة في أحد مقاهيها التي سبغت عليها الصبغة المحلية. نتحدث عن التفاصيل الصغيرة للتطبيع ولا نرى الفنادق والبنوك وشركات الطائرات وناقلات البضائع ومالكي ومصنعي الكمبيوترات والتقنيات.. سذاجة إذا ما أردت الحديث عنها، وجدت نفسك بلا شك في معركة محتملة.

لماذا نحن دائما بصدد تلك المعركة المحتملة؟ ظني أن «المعارك المحتملة» هي مفهوم مرتبط بالمجتمعات المهتزة التي يفتقد فيها الأشخاص الثقة بالنفس وبالمعلومة وغياب الحاكم القانوني الموثوق. فليس لدينا في عالمنا العربي حكم يفصل في الأمر إذا ما كانت المعلومة المطروحة صحيحة أم خاطئة. لدينا فكرة الغلبة، أي أن رأي الأغلبية هو الذي يسود، حتى لو كانت هذه الأغلبية مجموعة من الجهلاء، أي أن العلم «بالدراع»، أو بعلو الصوت، أو بتكرار الظهور على الشاشات والإذاعات.. ولا توجد جهة علمية متخصصة أو قانونية موثوق بنزاهتها أو اجتماعية تحترم حرية الفكر والفرد لتفصل في أي خلاف إن وقع، ولتبين الحق من الباطل، إلا في إطار الفتاوى الدينية، وحتى تلك فهي ملتبسة وكثير منها يتبع السياسة والهوى أيضا.. وهل يمكننا تجاهل أن العديد من الفتاوى الدينية صدرت بالصوت العالي، أو بفوهة البندقية، أو بـ«الدراع»؟.