عندما يكون المرء في باريس

TT

حينما تغادر فضاءات الشرق الأوسط وتحطّ الرحال في أي عاصمة أوربيّة أو غربيّة تشعر أنّك خلعت رداء السياسة وهاجرت إلى كوكب آخر لا تشكّل السياسة فيه مشرب ومأكل البشر كما تفعل في الشرق الأوسط حتى وإن تك مهمتك سياسيّة بحتة وتتعامل مع أهلها في البلد المعنيّ. ذلك لأنّ الغالبيّة العظمى منشغلة بما يشكّل أساسيات حياتها من تعليم وطبابة ومستوى معيشة ورفاه والسياسة تعنيها فقط بقدر قربها أو ابتعادها من التأثير السلبيّ أو الإيجابيّ على تفاصيل ومستوى الحياة اليوميّة للمواطن. وإذا ما أردتَ أن تفرغ ما في جعبتك من ألم لأن سياساتهم الموجّهة إلينا لم تسمح لنا بأن نتفرّغ لأي من مواضيعنا الحياتيّة الملحّة وجدتَهم لا يريدون حتى أن يسمعوا عن الألم في العراق أو فلسطين أو لبنان أو الصومال أو أفغانستان أو باكستان أو السودان. والذريعة هي أنّ الاستماع للمعاناة وخلق جوّ من الكآبة لن يفيد أحداً بشيء والأفضل هو أن نتحدّث عن الأمل وعن المستقبل ومعهم الحقّ لأنّ لديهم الكثير من الأمل ولأن مستقبلهم، على خلاف مستقبل منطقتنا، واضح المعالم وواعد. فرغم كلّ الصعوبات التي اعترضتّهم في العقدين الأخيرين ورغم كلّ الحروب المدمّرة التي خاضوها ضدّ بعضهم في العقود التي سبقت خلقوا اليوم من أوربا جزيرة منتعشة للأوربيين يتمتّعون فيها بحريّة الحركة والعمل والتعليم وصناعة المستقبل بحيثُ أصبحت هذه الهويّة الجديدة تشكّل قيمة مضافة لكرامة الأوربي الوطنيّة والشخصيّة وزادته مناعة وقدرة على مواجهة الصعاب وعزّزت آماله بمستقبل أكثر ازدهاراً على كلّ المستويات. وتبدو لي الأمور وكأنّ السياسيين المعنيين بالشأن الداخلي الأوربي وحتى بالعلاقات الأوربيّة الأمريكيّة أو العلاقات مع الدول الصناعيّة الثماني يرتدون قبعة مختلفة جداً حين تتحدّث معهم حول الشرق الأوسط فيفكّرون بأسلوب مختلف ويقدمون حسابات مختلفة لا مكانة فيها للمواطن العربيّ وحريّته ومستقبله وأمنه وازدهاره. ومن ناحية منطقيّة لا يمكن توجيه اللوم لهم لأنّ العربيّ ليس مواطنهم، بل هم يرون في بلده وثرواته وأرضه وتاريخه صيداً هاماً لخدمة مواطنهم وزيادة ثرائه وازدهاره ولذلك فهم يتحدّثون عن منطقتنا كلها وكأنّها أرض بلا شعب كما فعلوا دائماً منذ عصر الاستشراق والاستعمار التقليديّ ولا بدّ أنّه أصبح واضحاً اليوم أنّ القيم السياسيّة والأخلاقيّة الغربيّة تؤمن في العمق أنّ الدمّ الذي يسري في عروق أبنائها مختلف عن الدمّ الذي يسري في عروق أبنائنا وهذا ليس استنتاجاً من فراغ بل هو نتيجة التعامل مع مصير أبنائنا حتى حين يكون السبب السياسات العدوانيّة للقوى الغربيّة ذاتها. وإلاّ كيف نفهم مثلاً تصريح كونداليزا رايس في الرابع من تمّوز، والذي هو العيد الوطنيّ للولايات المتحدة، والتي قالت فيه أنّها «فخورة بما جرى في العراق» وأنّ «الرئيس بوش برهن أنّه على صواب». والسؤال هو هل هي فخورة بأنّ حكومتها تسبّبت بوجود مليوني أرملة في العراق وتعتبر ذلك كسباً لتمكين المرأة العراقيّة؟ أم أنّ رايس فخورة بتيتيم ما يقارب خمسة ملايين طفل وقتل ما يفوق مليون عراقي ونزوح خمسة ملايين عراقي من ديارهم داخل وخارج العراق أم أنّ المصير الدمويّ والمأساويّ لهؤلاء جميعاً لا يعنيها؟ أم أنّ رايس فخورة بالقواعد الأمريكيّة التي زرعتها حكومتها في العراق، وبمبنى السفارة ببغداد، أم بالقاعدة الأضخم، وما يشكّله العراق من رافد الطاقة في وقت ترتفع فيه أسعار النفط وما حصل عليه أصدقاؤها من رُقُم وآثار من حضارة بلاد الرافدين لا تقدّر بثمن. ماذا لدى بوش ورايس غير الدماء والتعذيب والفقر والتهجير ليفخران به؟!

والأمثلة أكثر من أن تُحصى فقد شكّل امتلاك إيران مؤخّراً للمعرفة والتقنيّة الصاروخيّة زلزالاً في التصريحات الأمريكيّة ليس لانّ إيران اعتدت على أحد، ولكن لأنّها فقط امتلكت المعرفة بحيثُ اعتبرت رايس هذا الامتلاك يشكّل تهديداً لحلفائها. ماذا نقول نحن إذاً الذين يمتلك خصومنا كلّ أنواع المعرفة والسلاح ويستخدمونها فعلا ضدّ شعوبنا متى شاؤوا وكيفما شاؤوا؟ أوليس من حقّنا أن نشعر أنّنا مهددون بالفعل؟ ولم يكتم أحد أنّ الولايات المتحدة وضعت 40 مليون دولار من أجل «عمليّات» أو «تمرينات» داخل إيران، أي من أجل التدخّل السافر الاستخباراتي والعسكري ولكن العذر كان مذهلا إذ هناك عرب في الأهواز يعتقد أن حقوقهم مهضومة أما عرب العراق وفلسطين والجولان والصومال والسودان فلا يهمّهم مصيرهم. ولا يهمّهم مصير أكثر من أحد عشر ألف عربيّ أسير في سجون الاحتلال الإسرائيليّة ولا لمصير ثلاثمائة وستة وستين طفلا فلسطينيّا قتلتهم إسرائيل في السنة الأخيرة لوحدها.

ولكن ولكي لا نلقي باللوم على الآخر ونبرّأ أنفسنا من مسؤوليّة صناعة المستقبل لأجيالنا وأبنائنا يجب أن نخفّف من الحديث عن السياسة في منطقتنا وننخرط في صناعتها. وصناعة السياسة، كما هي في الغرب، تعني صناعة مقوّمات القوّة ومعالجة نقاط الضعف، وقد حان للعرب جميعاً أن يبدأوا بصناعة السياسة بدلا من الحديث فيها وعنها. إذ كم يشعر المواطن العربيّ بالغيرة ليس فقط من الأوربي وإنما اليوم من مواطني دول أمريكا الجنوبيّة الذين قرّروا أيضاً إلغاء تأشيرات الدخول (الفيزا) فيما بينهم بحيثُ ينتقل أبناؤهم بحريّة في أرجاء القارّة بينما يعكف العرب اليوم والذين كانت قوافلهم تجوب البلاد من صحراء شنقيط إلى الحجاز ونجد، يعكفون اليوم على بناء جدران وزيادة الحواجز الحدوديّة بين أقسام الأرض الواحدة والشعب الواحد ذي اللغة الواحدة والتاريخ الواحد.

بعد أن أمضت القوى الغربيّة القرن العشرين تتحدّث عن الخطر الشيوعي وتحارب كلّ المفكّرين العلمانيين والتقدميين بهذه الذريعة اخترعت اليوم ذرائع أخرى من نوويّة وإرهابيّة كي تستأصل جذور الإبداع العلمي والابتكار التقني في مجتمعاتنا. لقد كان المستوى العلميّ الذي وصل إليه علماء العراق في الفيزياء والكيمياء والرياضيّات هو مصدر الخطر للغرب لأنّ هذا يعني النهوض ورفض العبوديّة. ومن يُجري بحثاً اليوم يجد أن ما نشره المهتمّون من اجتثاث لعلماء العراق يرقى إلى مستوى الإبادة الجماعيّة لأهمّ مفكريّ وعلماء هذه الأمّة. والمقياس ذاته ينطبق على أي بلد في منطقة الشرق الأوسط يمتلك ناصية النهوض العلميّ والتقنيّ والوطنيّ الحديث. المطلوب إذاً ليس أن نكرّر أنّهم يخطّطون لاغتيالنا لأنّهم يخطّطون وينفّذون ذلك منذ عقود، والمطلوب إذاً ليس الاستنتاج أنّهم لا يرون شعوبنا أخوة لهم في الإنسانيّة، فهم بالتأكيد لا يرون ذلك والتعامل واضح والمواقف معبّرة عن ذلك لسنوات. المطلوب إذاً هو أن نبتعد عن اجترار الاستنتاجات المكرّرة والواضحة وأن ننخرط ببناء أوطاننا وامتلاك عناصر قوتنا متّبعين بذلك الأسس العلميّة ذاتها التي اعتمدها الآخرون في نهضتهم. المطلوب اليوم هو أن ينتقل العرب جميعاً إلى مرحلة ما بعد الاستقلال الحقيقيّة بحيثُ تصبح المواطنة هي أعلى قيمة أخلاقيّة يدأب الجميع إلى خدمتها ورفعتها وبحيثُ تصبح المصلحة الوطنيّة فوق اعتبار قرابات الدمّ والمناطق والطوائف. وبحيثُ يصبح الأداء هو المعيار الوحيد لتصنيف أبناء الوطن واستقراء مكانة الوطن الحقيقيّة في قلوبهم، وبحيثُ يصبح الحيّ والحقل والمدرسة والمؤسسة بغلاوة أهل البيت. حينذاك فقط يصبح الحديث عن السياسة مجدياً لأنّها ستكون السياسة التي امتلكت كلّ عناصر القوّة الوطنيّة العربيّة معاً، وحينذاك فقط سيصبح العرب كما يرى الآخرون أنفسهم اليوم. وبدلا من أن نطلب أو نتوقّع من الآخرين أن يُعامِلوا شعوبنا وبلداننا كما يُعاملون شعوبهم وبلدانهم لنتعلّم منهم أسلوب صياغة هذه البلدان لتبقى متينة ومزدهرة وحينذاك لن نتكّلم كثيراً عن الألم والسياسة لأننا سنحبط مخطّطات صنع الألم لشعوبنا قبل أن تُنفّذ، وسينعكس العمل السياسي على الجميع أمنا وعملا واستقرارا. ها هي باريس التي تستضيف أربعين رئيساً ونيّف للمشاركة في العرض العسكريّ في الرابع عشر من تمّوز تضع في مقدّمة العرض الطلاّب المتميّزين من المدرسة الفرنسيّة العليا للسياسيين لتقول للعالم: هؤلاء هم مستقبل فرنسا ومستقبل فرنسا هو الأهم في هذا اليوم وفي كلّ يوم. نحن الذين نحمل بلداننا بين ضلوعنا حيثما توجّهنا نريد أن نتعلّم من كلّ ما يفعله الآخرون كيف نحبّ بلدنا وأمتنا أكثر وكيف العمل لنزيدها عزّة ومنعة وازدهاراً.

www.bouthainashaaban.com