اضطرابات لبنان.. ومشكلات المنطقة

TT

ما عاد من الممكن الحديث عن توترات «المرحلة» أو صعوباتها؛ بل إنّ تسارع الأحداث ومفاجآتها تفرض التدقيق في التوقعات أو الاستشرافات بحيث يقالُ مثَلاً: توقُّعات الأسبوع أو الأيام أو الشهر السابع! وفي التدليل على ذلك نذكر هنا الاجتماع المفاجئ لمجلس الأمن الإسرائيلي، أو الحكومة الأمنية المصغَّرة، وإصدار بيان عنيف عن مخالفات حزب الله للقرار الدولي رقم 1701، وزيادة واردات الحزب من السلاح عبر سورية! وهذه كلُّها أمورٌ لا ندري لماذا تذكرها إسرائيل الآن، سواء أكانت صحيحةً أم لا. فقد انعقد اتفاقٌ مع حزب الله قبل أيام على تبادُل الأسرى.

ويوشك اليهودُ أن يعقدوا جلسةً ثالثةً للمحادثات مع السوريين في تركيا خلال أيام. والرئيس الأسد ذاهبٌ إلى فرنسا، وقد بشّر في حديث إلى «الفيغارو» بانتهاء الحاجة للسلاح قريباً، عندما يسودُ السلامُ المنطقة!

بيد أنّ المفاجئ أو غير المفاجئ، لا يقتصرُ على ذلك. فبعد أن اطمأنّ رئيس الوزراء اللبناني المكلَّف إلى رضا الجنرال عون بحصته المنتظرة في الحكومة العتيدة، فاجأه حلفاؤه في 14 آذار بالتنافُس فيما بينهم على المقاعد والكراسي. ثم فاجأه أكثر، إقدام حزب الله على ترشيح علي قانصو رئيس الحزب القومي السوري حتى قبل عشرة أيام، لمقعد وزاريٍ عن الطائفة الشيعية. وحزبُ الله يعلمُ أنّ السنيورة لا يستطيع الموافقة على توزير علي قانصو في حكومة «الوحدة الوطنية» بعد أن شاركت ميليشيا الحزب القومي في غزو بيروت قبل أسابيع قليلة! لكنّ الذي فاجأ السنيورة (وسائر المسلمين) أكثر وأكثر، هو انفجار الوضع بطرابلس بين بعل محسن وباب التبانة من جديد. وقد بدأ الاشتباك كالعادة بإطلاقٍ مفاجئ للنار من جانب مسلَّحي بعل محسن استمر لساعات، وأدّى إلى قتل خمسة من طرابلس، وجرح زُهاء المائة من مدنيي المدينة. فمن الذي له مصلحةٌ في تفجُّر الوضع أو تردّيه بطرابلس، ومن الذي يدير شؤون مسلَّحي بعل محسن الآن أو يتحكم في بنادقهم؟ المسلَّم به منذ ثلاثين عاماً أنّ الأقلية العلوية بطرابلس، يسيطر عليها السوريون، وتدير شؤونها أجهزتهم. بيد أنّ السوريين يقولون منذ أسبوعين وأكثر إنه لا شأنَ لهم بالاضطرابات بطرابلس، وأنّ حزب الله بعث مسلَّحين وأسلحةًَ إلى هناك، وأنّ الجانب السوري وَجَّه تحذيراً إلى زعيم المسلّحين رفعت علي عيد، ينهاه فيها عن المشاركة في الاضطراب لحساب حزب الله أو لحسابِ أيّ طرفٍ آخَر! وكانت التوقُّعات قد تصاعدت ببيروت بقرب تحقيق تشكيل الحكومة لأنّ الرئيس السوري يرغبُ في إظهار تعاوُنه على مشارف ذهابه إلى باريس. فهل يريد حزبُ الله من خلال مسلَّحي بعل محسن، وترشيح علي قانصو، تعطيل تشكيل الحكومة أو تأخيره لما بعد إطلاق الأسرى، ليبقى الرقم الصعب لحين الاتفاق على البيان الوزاري؟ هذا واردٌ بالطبع. لكنني ما أزالُ أرى أنّ مسلَّحي بعل محسن، لا يستطيعون البدء بإطلاق النار والبقاء على ذلك لساعاتٍ، دونما موافقة من الأجهزة السورية.

ولننظر في المدى الإقليمي الأوسع. بعد قائد الحرس الثوري الإيراني الجنرال جعفري، قام الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد بالتهديد بإغلاق مضيق هُرمُز، والتهديد بإحراق إسرائيل! وهذا في الوقت الذي بدأ فيه الأوروبيون يتذمَّرون من عدم جدية الردّ الإيراني على مُبادرتهم. ومن قمة الثماني باليابان، خرج النبأ القائل إنّ الأميركيين اتفقوا مع الروس بشأن النووي الإيراني، واختلفوا معهم بشأن الدرع الصاروخي الذي يريدون إقامته بشرق أوروبا.

وفي مجالٍ آخَر، جاء الرئيس الفلسطيني إلى سورية واجتمع بالرئيس الأسد، كما اجتمع بالتنظيمات الفلسطينية باستثناء حماس وخالد مشعل. وما أن غادر أبو مازن سورية، حتى أُعلن عن وفد لحماس ذهب إلى مصر للاجتماع بالوزير عمر سليمان مدير المخابرات المصرية، من أجل التشاور في التهدئة الحاصلة بين حماس وإسرائيل، وربما العودة للتفاوض بشأن الجندي الإسرائيلي الأسير. وما قيلت كلمةٌ عن التفاوض بين حماس وفتح.

وفي مجالٍ آخر أيضاً وأيضاً، تزداد النقاشاتُ بين الحكومة العراقية والولايات المتحدة بشأن الاتفاقية الأمنية حِدَّةً، وتزدادُ في الوقت نفسه هجمات إيران وأنصارها على أيّ اتفاقية لا نصَّ فيها على تاريخ الانسحاب الأميركي!

ماذا يعني هذا كلُّه؟ فالتفاوُضاتُ مندلعةٌ في كلّ مكان. في غزة بين الفلسطينيين والإسرائيليين ثم بين الفلسطينيين أنفسهم، وبين سورية وإسرائيل. وبين الحكومة العراقية والأميركية. وبين الأطراف اللبنانيين لتشكيل الحكومة الجديدة. وبين سورية وفرنسا. وقد حمل وزير الخارجية الإيطالي عرضاً للتوسط في مفاوضات مباشرة بين لبنان وإسرائيل للجلاء عن مزارع شبعا. وهناك تحسُّنٌ نسبي بالفعل في الظروف الأمنية بكل من العراق وغزّة. لكنّ كلَّ المفاوضات الدائرة هشّة وقصيرة الحبل كما يقال. وليس هناك طرفٌ من الأطراف المفاوضة يعرف نوايا الطرف الآخر، أو يثق به. وكلُّ الأطراف في الواقع تفكّر في الولايات المتحدة، وتختلف تقديراتها اختلافاً شاسعاً بشأن نواياها وتصرفاتها الممكنة وغير الممكنة. فهناك مَنْ يقول إنّ الملفَّ النوويَّ الإيرانيَّ لا يحتملُ التأجيل إلى الإدارة اللاحقة، ولذلك على بوش أن يقرّر من الآن وحتى شهر سبتمبر. ومعنى قراره: هل يُقْنعُ الأوروبيين والروس بالعقوبات، أو بما هو وراءها أو يمضي بمفرده؟ وهناك من يقول إنّ الأوروبيين والروس لن يقتنعوا بأكثر من العقوبات الخفيفة أيضاً، وهم يخشَون ـ والأوروبيون على الخصوص ـ من انهيار الاقتصاد العالمي، إذا تصاعد التوتر أو وقعت الحرب في منطقة النفط هذه. ثم إنّ الإدارة البوشيّة نفسَها عاجزةٌ عن اتخاذ قرار بسبب انقسامها. إذ لم يبق مع الحرب غير الرئيس ونائبه تشيني. أما كوندوليزا رايس فما تزال على إيمان شديد بالدبلوماسية من جهة، ومن جهة أُخرى فهي تتوقع خراباً كبيراً إذا وقعت الحرب، ومن ضمن الخراب تعطُّل المفاوضات الفلسطينية/الإسرائيلية الهشّة والمترددة، والثورانات الأصولية المنتظرة والتي لا تقتصر على حزب الله وسلاحه. ويتابع هؤلاء أن العسكريين الأميركيين أنفسَهم يقولون للرئيس ونائبه إنهم ليسوا جاهزين لحرب جديدة. ولهذه الأسباب كلّها، بدأت فكرة معيَّنة تتسلَّلُ إلى الاخلاد مؤدَّاها ترك ملف النووي الإيراني للمعالجات الدبلوماسية، باعتبار ذلك أهونَ الشرَّين!

ما علاقةُ لبنان(وسورية) بهذه التأمُّلات؟ إسرائيل بدأت تشعُرُ بالوحدة ـ إذا صحَّ التعبير ـ، وأنها متروكةٌ في الكبير تحت رحمة النووي الإيراني، وفي الصغير تحت رحمة صواريخ حزب الله! ولذلك فقد تقومُ إسرائيلُ منفردةً ومعتمدةً على موقعها في الولايات المتحدة والغرب ـ بالهجوم على حزب الله أو على إيران إن تجرأتْ أكثر. فالحديثُ عن خروق حزب الله للقرار الدولي رقم 1701 والآن، ليس بريئاًً. ثم إنها كانت قد قامت بمناوراتٍ تجريبيةٍ حظيت فيها بمساعدات لوجستية أطلسية أمام شواطئ اليونان، للإغارة على مواقع النووي الإيراني. وإيران وحزبُ الله من جهةٍ ثانيةٍ لا يخلُو وَضْعُهُما من التوتُّر والتوتير. فالعلاقاتُ مع سورية ما عادت كالسابق. وقد تسوءُ في المستقبل القريب. والاكتفاء بالتهديد والاستعداد، لا يخيف إسرائيل والولايات المتحدة بالقدْر الكافي. ولذا فإنّ إيران من خلال حزب الله، قد تقومُ بضربةٍ استباقيةٍ إذا تسللت إليها القناعة، في حدود شهر سبتمبر (أيلول) أيضاً، أنّ الأميركيين أو الإسرائيليين قد يضربونها أو أن إسرائيل قد تبادر لضرب قواعد صواريخ الحزب.

وهكذا فالمسرح الاستراتيجي بالنسبة للبنان لم يتغير. فسورية تَعِدُ بتخفيف الضغط على لبنان، إذا تصححتْ علاقاتُها مع العرب الكبار، وهي لم تتصحَّح حتى الآن. وتَعِدُ بتخفيف الضغط إذا حصلت على شيء فعليٍ من إسرائيل، وهي لم تحصل على شيءٍ بعد. وهذا يعني أنّ لبنانَ ما يزال عنصرا أو أداة ضغط على العرب.. وعلى الولايات المتحدة، في نظر سورية. ولدى سورية طبعاً ورقة قيادة حماس أيضاً، لكنّ تلك الورقة ـ على تراجُع أهميتها وقدراتها ـ لها أيضاً امتداداتُها في لبنان بالمخيمات، وبالمعسكرات المنتشرة داخل حدوده.

وحزبُ الله بكامل عُدّته وعتاده، جاهزٌ لتلبية طلبات إيران وتقديراتها. وصحيحٌ أنه مهتمٌّ بإبقاء تحالُفه مع الجنرال عون، وبعدم خروج خلافه مع سورية إلى العَلَن. لكنْ إذا اقتضت الاستراتيجيات أن يُبادر للتحرش فلن يتردد. وكذلك الأمر إذا بادرت إسرائيل للتحرش به، كما لمحتْ في اجتماعها الأمني هذا الأُسبوع.

فتبقى مشكلة لبنان أنه ساحةٌ لتبادُل الضربات بالواسطة في المنطقة. ويبقى أنّ أهل السُنّة في لبنان في السنوات الثلاث الأخيرة، صاروا هم الجدار، الذي تُطْلَقُ عليه قذائفُ الفُرقاء، حين لا يريدون أو لا يستطيعون إطلاقها على خصومهم مباشرةً. ولا حول ولا قوة إلا بالله.