حكومة لبنانية جديدة أسيرة لـ«لعبة الطوائف»

TT

تفاءلوا بالخير تجدوه.

حبّذا لو يصدق التفاؤل هذه المرة، وتنقشع الغمامة عن لبنان والمنطقة بعد حل عقدة حكومة ما سُمّي تهذباً «حكومة الاتحاد الوطني».

بصراحة، لا يُلام من لا يريد التفاؤل خشية اتهامه بالسذاجة. فالمخاض العسير لتشكيل الحكومة، يكشف أن قلة من القواسم المشتركة بين اللبنانيين التي غابت أو غيّبت في مايو (أيار) الماضي غدت اليوم حاضرة ... بحمد الله وفضله.

بل من البديهي، أنه مثلما اقتضى الأمر تجمّع الأقربين والأبعدين في قطر للخروج بصيغة «لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم»، قد يحتاج اللبنانيون لجهود «أقربية» – «أبعدية» من الماركة ذاتها لحلحلة كل عقدة ستواجهها الحكومة الوليدة بثلثها المعطل وتركيبتها التسووية المعقّدة.

فلا «البيان الوزاري» موضع إجماع، ولا استراتيجية إجراء الانتخابات بما فيها «قانون الانتخابات» متفق عليها، ولا الحالة الأمنية مضبوطة بالقدرات الذاتية للدولة المفترض أنها ذات سيادة... لكنها الأضعف بين «سيادات» أخرى على الأرض اللبنانية وما حولها.

لا شك أن زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى باريس، على خلفية الغرام الفرنسي المتفجر لدمشق، لعبت وستلعب دوراً خطيراً في ما ستحمله الأيام للحكومة اللبنانية الوليدة.

أيضاً، من نافل القول، إن الشق الإسرائيلي عنصر مؤثر وحاسم في ما سيواجهه لبنان بأسره، وبالأخص في ظل استمرار تفاوض تل أبيب مع دمشق، وبعدما أدت تل أبيب دورها للعلى فسلّمت آخر ما لديها من الأسرى اللبنانيين لـ«حزب الله»، وليس للدولة اللبنانية، التي لا تريد لها أن تقوم، أو أن يكون في لبنان دولة أصلاً.

ثم هناك الجانب الإيراني الذي يجتذب مزيداً من الاهتمام الإقليمي والعالمي في اعقاب عرض العضلات الصاروخي الأخير، بوجه ارتباك اميركي وغربي يخفي انقساماً ومواقف ملتبسة و«مزدوجة»... حيال مستقبل الدور الإيراني في المنطقة العربية والعالم الإسلامي. وثمّة من يقول إن في واشنطن دوائر رفيعة المستوى مستعدة للتعايش مع «إيران نووية»، ليس فقط لأنها دولة قرارها «مركزي» قادر على ضبط انتشار السلاح النووي ومنع وصوله إلى أيدي جماعات صغيرة، بل لأن «إيران نووية» تشكل ضمانةً لبقاء العرب تحت الخيمة الأمنية الغربية إلى ما شاء الله، وصرفاً أكيداً لاهتمامهم عن أي عمل قد يجول في خواطرهم ضد إسرائيل.

عودة إلى لبنان، أذكر أن الذريعة الأطرف التي دأب رئيس مجلس النواب نبيه برّي على تكرارها لتبرير إغلاقه مجلس النواب هو أنه لا يريد أن يتحوّل البرلمان إلى حلبة للعراك في ظل الانقسام الحاد بين اللبنانيين. وكانت النتيجة الحتمية لانعدام التنفيس وتعذّر المعالجة انتقال العراك إلى الشارع، وهكذا شهد اللبنانيون منذ قرابة السنتين ما شهدوه من أصناف «التعايش» و«التحاور».

الآن انتقل البرلمان بكل تناقضاته وكيدياته إلى الحكومة. فهل يمكن أن تنجح الحكومة المفترض أنها مجرد «سلطة تنفيذية» حيث أخفق مجلس النواب، ومعه أكثر من «مؤتمر» للحوار؟

ثم إن الكتلتين (الموالاة والمعارضة) اللتين شكّلت منهما الحكومة، كتلتان قائمتان على موقفين متضادين من واقع أساسي في تاريخ لبنان الحديث هو «اتفاق الطائف».

فالموالاة على اختلاف أحزابها ومكوّناتها الإسلامية والمسيحية مع تطبيق هذا الاتفاق نصاً وروحاً، بل يشكّل «الطائف» القاسم المشترك في ما بينها. وفي المقابل، تقف المعارضة بمختلف مكوناتها فعلياً ضد تطبيق «الطائف» الذي عملت دمشق على شله وسعت إلى نسفه.

السبب البسيط هو أن «الطائف» يمهّد لتأسيس «دولة» ذات سيادة وذات مؤسسات، وبالتالي قابلة للحياة. وثمة فارق هائل بين «الدولة»... و«الجولة» أو «الهدنة». وضمن هذا الواقع يصبح مفهوماً تلاقي مصالح «حزب الله» و«تيار» التطرف والمزايدة المسيحي.

فـ«حزب الله» ضد فكرة قيام «الدولة»، و«تيار» التطرف والمزايدة المسيحي ـ بمن فيه «المستعربون» ـ ضد التعايش مع الشريك المسلم في إطار صيغة منصفة وافقت عليها حتى البطريركية المارونية.

بل تصبح الصورة أكثر وضوحاً إذا تذكّرنا أن المستفيد الأكبر مما طبّق فعلاً من «الطائف» كان المسلمون السّنة الذين ما عاد رأس هرمهم السياسي مجرد «باشكاتب» في بنية الدولة. وكان من الممكن أن يستفيد، في ما لو اكتمل التطبيق، الدروز وبعض الطوائف الصغيرة أيضاً بفضل اللامركزية الإدارية الموسعة وتأسيس مجلس الشيوخ.

غير أن القرار صدر بوقف التطبيق. وانطلق «المستعربون» المسيحيون الذين استعادوا حضورهم بالأمس في «اللقاء المسيحي الوطني!» في معركة التحريض على «الطائف»... تارة بحجة تهميش المسيحيين وطوراً باسم وقف الهدر والفساد، كما «فلسفوا» الضرورة القصوى لبناء تحالف ثنائي «مسيحي ـ شيعي» يقف في وجه السّنة والدروز.

هذا المنطق التقى مع تغييرات القيادة السورية وتولي «جيلها الجديد» الدفة على أنقاض «الجيل القديم». وتبلور أكثر فأكثر في تبنّي دمشق الكامل لقوى المعارضة اللبنانية بالتضامن والتكافل مع طهران.

بالأمس، اكتفى «حزب الله» ـ الذي يدير اليوم دولة أكبر من الدولة اللبنانية ـ بمقعد واحد فقط له في الحكومة، وهذه خطوة ذكية تتيح له تضخيم حجم حلفائه من الطوائف الأخرى وإحراج منافسيهم في طوائفهم. و«تيار» التطرف المسيحي ابتهج بهذه الهدية وقدّمها للشارع المسيحي دليلاً على صحة رهانه في الصراع الطائفي القائم. و«المستعربون» انفرجت أساريرهم لتركيب «منشار ابتزازي» للفريق المسلم... إذ قال أحدهم معجباً بـ«إنجاز» ميشال عون إنه بتحالفه مع «حزب الله» أجبر خصومه المسلمين في الموالاة على إرضاء حلفائهم المسيحيين.

في المقابل، حسناً فعلت الموالاة.

حسناً فعلت بتحاشيها السقوط في فخ يستهدف مسيحييها بالدرجة الأولى والأخيرة على أبواب الانتخابات المقبلة. ولقد أثبتت قيادات الموالاة بالدليل القاطع أن أحداً لا يسعى إلى مصادرة أصوات المسيحيين أو تهميشهم... لكن المهم ألا يسمحوا هم للمتاجرين بعواطفهم وغرائزهم بالمقامرة بمصيرهم.