صدق كبير الأساقفة

TT

حضرت في لندن أواخر التسعينات لقاء حاشدا جمع بين شيخ الأزهر الدكتور سيد طنطاوي وكبير أساقفة الكنيسة البروتستانتية آنذاك الدكتور جورج كيري، وكان من أهم النقاط اللافتة التي أشار إليها الأسقف كيري في كلمته الترحيبية، أن أي لقاء يجمع بين قادة هاتين الديانتين يجب ألا يقود إلى «حوار تنازلات»، وقال بلغة صريحة وواضحة إنني لست على استعداد لأن أتنازل عن شيء من معتقدات ديانتي، ولا أتوقع من الجانب الإسلامي أن يتنازل عن أي معتقد في دينه، وفي تصوري ـ والكلام للكاتب ـ أن عدم فهمنا للأطرف الدينية الأخرى وطبيعة نظرتهم لمؤتمرات الحوار جعل بعضنا لا يفترض فيهم إلا أنهم حريصون على هذه اللقاءات الحوارية دائما وأبدا فقط للوثوب على ديننا الإسلامي والقضاء عليه.

مؤتمر الحوار العالمي الذي دعا إلى عقده العاهل السعودي الملك عبد الله في مدريد الأربعاء القادم، يحتم توضيح طبيعة هذه الحوار، حتى لا يفقد أهدافه السامية التي عقد من أجلها، وهي الاجتماع على قيم إنسانية مشتركة، وما أكثر عددها وأكبر مساحتها لتحقيق العدل والأمن والسلام في العالم كله، فهذا المؤتمر لم ولا يمكن أن يجعل العقائد محل بحث ونقاش، إذ يستحيل على أتباع أي دين أن يجعلوا عقائدهم التي يرونها من الثوابت، التي لا تمس، محل نقاش للتعديل أو التحوير، فإذا كانت المذاهب تحت سقف الديانة الواحدة قد تحاشت أن تجعل فروقاتها المذهبية محل تحوير أو تغيير، فكيف نتصور عقلا ومنطقا، أن يجتمع أتباع الديانات المختلفة على تذويب الفوارق العقائدية والاختلافات المذهبية؟

لم نسمع أن مذاهب تحت سقف الديانة المسيحية أو اليهودية أو البوذية قد اندمجت بسبب حوارات لا في القديم ولا في الحديث، بل على العكس إذ أن تقادم الزمن أكثر من توالدها وتفرعها وتشعبها، وقل نفس الشيء عن المذاهب العقائدية تحت المظلة الإسلامية، وحتى المذاهب الفقهية الإسلامية، على الرغم من خلافاتها الفرعية، لم ولا يمكن أن تعرض إرثها الفقهي التاريخي للتلاشي أو دمجها في مذهب آخر، بسبب حوار هنا أو هناك (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم).

ثمة أمر آخر تصور البعض، ومنهم الدكتور محمد عمارة، أن يكون عائقا دينيا وطبيعيا ومنطقيا، دون إقامة حوار، وهو مسألة الاعتراف بالدين الإسلامي بحجة أننا كمسلمين نجعل من إيماننا بنبوة جميع الأنبياء أساسا في عقيدتنا، على عكس أتباع الديانتين اليهودية والإسلامية فإنهم لا يعترفون بنبينا ولا يقرون بالدين الإسلامي، فلا معنى ولا فائدة من الحوار، وهذا أيضا إلزام غير ملزم، فلا نعرف في نصوص الشريعة وفي تاريخنا الإسلامي ما يجعل اعتراف الطرف الآخر شرطا لبدء الحوار معه، وإلا كان من لازمه سد أي حوار أو لقاء حتى مع أتباع الديانات غير السماوية مثل البوذية والهندوسية وغيرها.

ثم إن اشتراطا مثل الاعتراف سيحرم المسلمين من التعاون لتحقيق أهداف مشتركة هي في صلب تعاليم الدين الإسلامي، كنت ذكرت في مقالة قديمة في هذه الصحيفة أن المركز الإسلامي في لندن في التسعينات، حين كنت مسؤولا فيه، حشد من أتباع الملل والنحل السماوية والأرضية، ما نعرف منها وما لا نعرف، لعقد حوار لتنظيم حملة مشتركة ضد حكومة العمال في بداية عهد رئيس الوزراء الأسبق توني بلير، لحملها على عدم إلغاء المادة 28 التي تحظر أي تغيير في المناهج التعليمية البريطانية، يعطي انطباعا حسنا عن الشاذين جنسيا «المثليين»، وقد افلحت الحملة في تحقيق أحد المشتركات الإنسانية، ولم يكن اعتراف أحد بدين الآخر حاجزا عن تحقيق هذا الهدف الإنساني النبيل، وهذا بالضبط ما يرمي إلى مثله المؤتمر العالمي للحوار في مدريد.

[email protected]