الحكمة وراء حكيم أفريقيا

TT

احتفل العالم بأسره في الشهر الماضي بميلاد نلسن منديلا وبلوغه التسعين عاما. نظموا في المناسبة حفلة موسيقية عارمة في متنزه هايد بارك بلندن ووليمة تاريخية في مبنى الغلدهول. انعموا عليه بالكثير من الالقاب والرتب والأوسمة. ولكن لقبا واحدا لفت نظري من بينها. إنه تسميته بحكيم افريقيا.

لم يقف احد ليحلل لنا هذا اللقب واسراره وجذوره. خطر لي انهم اعطوه هذا اللقب لأنه بادر حال خروجه من السجن الى تطليق زوجته. بيد ان الشيء الثابت هو ان حكمة منديلا هي التي صانت افريقيا الجنوبية من التقاتل والمنازعات ورسمت لها خطا بعيدا عن الطائفية والعنصرية. كم اصبحنا نردد في مجالسنا الخاصة، يا ويلنا! لماذا لم تستطع امتنا العربية ان تنتج منديلا عربيا واحدا؟ ولكن ما الذي اعطى هذا الرجل هذه الحكمة؟

يبدو لي ان جذورها وخلفيتها تمتد الى ايام شبابيته في الماركسية والشيوعية. فأول شيء تفعله الماركسية هو ان تستبعد من الساحة روح الطائفية والعنصرية وتحل محلها الإيمان بإخوة البشر والعائلة الواحدة للإنسان. يتعلم الرفاق ان النزاع يجب الا يكون بين سني وشيعي او عربي وكردي، وانما بين العامل والرأسمالي وبين الفلاح والاقطاعي.

عندما خرج منديلا من السجن، كانت الشيوعية قد انهارت وظهرت مناقص الاشتراكية. اكتشف الرفاق ان الثورة البلشفية كانت غلطة وخطوة قبل اوانها ادت الى دكتاتورية دامية. قالوا ان الماركسية تؤمن بسنة التطور والمرحلية. والمرحلة الحالية تتطلب بناء الصناعة والنضوج السياسي والاجتماعي. يجب ان يجري بناء الاشتراكية بطريقة ديمقراطية وسلمية وعبر صناديق الاقتراع وتصويت الاكثرية لها وبعد إنجاز شتى الاصلاحات الوطنية والاجتماعية. ما كانوا يدعون له بالثورة الحمراء اصبح خارج الصدد. حل الإيمان باللاعنف والشرع محل الايمان بالسلاح والعنف الثوري.

بيد ان القيم التقليدية للماركسية كالإيمان بحقوق المرأة ومساواتها والمساواة السياسية عموما، وحقوق الانسان وحرية الفكر والضمان الاجتماعي وعدم التمييز بين مواطن وآخر ظلت قائمة. هذه المعتقدات الماركسية التي نشأ عليها منديلا هي التي مكنته من لعب ذلك الدور، دور حكيم افريقيا.

الحقيقة ان برامج الاحزاب الشيوعية اليوم لا تختلف عن برامج اي حزب ليبرالي. ولهذا عمد بعضها الى تغيير اسمها. وهو ما يطالب به الكثير من الشيوعيين العراقيين اليوم. بيد ان التاريخ النضالي للأحزاب الشيوعية وأسسها الفكرية الماركسية تعطيها زخما اكبر وتفوقا على الاحزاب الليبرالية في نشر الدعوة لمساواة المرأة وحقوق الانسان ودحر الطائفية والعنصرية والشوفينية وتبني العصرنة والتحديث والاصلاحات الاجتماعية والتمسك بالديمقراطية. إنها خير من يستطيع تحدي الطائفية والارهاب.

قلت قبل اشهر للسفير الامريكي السابق، هامبلي، اذا كنتم حقا تريدون نشر الديمقراطية الامريكية في العراق، فما عليكم غير ان تبادروا لمساندة الحزب الشيوعي.

يا سبحان الله! يا مغير الاحوال من حال الى حال. وهذا اساس آخر من اسس الماركسية اللنينية!