لتكن المحكمة بعبع الأنظمة

TT

يشحن الهواء العربي دعائيا ضد المحكمة الجنائية الدولية، بعد ان قدم المدعي العام دعوى ضد الرئيس السوداني عمر البشير. وهي امتداد لأدب الذم الرسمي العربي، حيث تتهم المحكمة بأنها تستقصد العرب والمسلمين، وأنها من تدبير الاميركيين انتقاما من الخرطوم ردا على اعطاء امتياز بترولها لشركات صينية، وانها مخطط آخر للمحافظين الجدد، وانها مؤامرة لتقسيم السودان، الى آخر الدعاوى التقليدية. الدعوى في أصلها قضية دارفور التي يفترض ان تكون محل النقاش. ليقل لنا هؤلاء إن كانوا أبرياء وكيف ؟ ليطلعوا مواطنيهم على براءتهم بدل اللجوء الى السباب كأقصر الطرق لمواجهة الأزمة الخطيرة.

الدعوى، حتى لو لم تمض بعيدا، فإنها تؤسس لأول مرة في العالم العربي ما سبق لها ان أثبتته في ليبريا ويوغسلافيا، ان رؤساء الدول مسؤولون مسؤولية كاملة عن سوء استخدام سلطاتهم وارتكاب جرائم كبيرة. المحكمة الجنائية تقول لزعماء منطقتنا إن شعوبكم ليست خرافا تساق للمذابح انتقاما، او ردعا، او استمتاعا بالسلطة. فمذابح دارفور قيل انها ارتكبت لإخافة المتمردين في ذلك الاقليم المنكوب بالمجاعة والهجرة الجماعية. كما كان يفعل صدام حسين، إبان رئاسته العراق، بخنق اهالي قرى كردية باكملها بالغاز تثبيتا لحكمه في تلك المناطق المضطربة. فالانظمة الباطشة ترى اسهل عليها ان تبيد سكانا عزّل عن بكرة ابيهم، من مواجهة متمردين او ارهابيين مباشرة.

نحن لا نحكم على ما فعله نظام البشير، فهذا واجب المحكمة الدولية، لكن لا تخطئ العين سوء التعامل مع الاتهامات منذ بداية اخبار الفظائع، واللامبالاة بما كان يحدث لآلاف الناس الذين حرقت بيوتهم وهجروا من قراهم. والقضية في نظري ليست نظام البشير، ولا أي طرف في السودان، بل مفهوم وحدود اساءة السلطة في منطقتنا العربية التي اشتهرت بشراسة قمعها، وسطوة جلاديها، وكثرة ضحاياها. القليل فعل لإيقاف التردي الحقيقي في أخلاقيات الحكم. وهذا ما يدفع بعض الانظمة العربية لوقف اي محاكمة لأي نظام، او مساءلة، لانها تعتقد عن حق ان الطوفان سيصلها إن آجلا او عاجلا.

وأنا لا أخلط بين سوء الادارة المنتشرة في منطقتنا، وسوء استخدام السلطة الى حد ارتكاب الجرائم الجماعية. فالوصول بأي قضية الى اعتاب المحكمة الجنائية الدولية يعني عمليا وقوع جرائم على نطاق واسع. اي تجاوزت المخالفات حدود السجون، والاعتقالات المحلية، وانتهاكات لحقوق الانسان الفردية، الى القتل الجماعي والابادة ايضا. بامتلاك الانظمة القدرات العسكرية والامنية المحكمة، والمنظومة السياسية المحتكرة، صار سهلا عليها التخلص من الخصوم بالكم والكيف من دون رادع قانوني، او محاسبة شعبية، وتأوي في الليل لتنام على وسائد من حرير. إن من صالح المواطن العربي، لا النظام السياسي العربي، أن تقام المحاكمة. ومن صالح النظام السوداني إنْ كان بريئا ان يذهب ويتحدى المدعي العام بالأدلة لا من خلال التخويف بالحرب والنيران في كل مكان، ولو ظهرت براءته سنحتفي به. لكن لتكن هذه المحكمة درسا للأنظمة العربية حتى تمتنع عن ارتكاب الجرائم الكبيرة.

[email protected]