عروبة العراق شرط للتطبيع مع النظام الشيعي

TT

كانت باريس عاصمة الحدث العربي المثير في الأسبوع الماضي. لأول مرة في التاريخ، تلتقي أوروبا مع العرب لقاء سلميا حسن النية لتدبير شؤون وشجون البحيرة المتوسطية. وفي باريس، لا في القاهرة وبيروت ودمشق، تشاء سورية ولبنان الاتفاق على «التطبيع» الديبلوماسي بينهما.

الطريف والغريب أن فرنسا كانت قد جمعت بين البلدين، خلال انتدابها عليهما قبل نحو تسعين سنة في شبه وحدة اقتصادية. ها هي باريس تشهد اليوم استكمال انفصالهما الاقتصادي بانفصال سياسي.

كانت العلاقة الديبلوماسية هوى مسيحيا، ومارونيا بالذات. السلوك البوليسي والوصائي للنظام السوري جعل سنّة لبنان يتبنّون أيضاً الانفصال التام. رمح آخر ينغرز عميقا في صدر كل عربي ما زال يحنّ إلى عرى الوحدة لا القطيعة.

لا أريد أن أُتّهم، كسوري، أني ضد الرغبة اللبنانية الجارفة، لكن أقول إن اللبنانيين جميعاً سيعضّون قريباً بنان الندم. كل نظام سوري متشدد ومتقشف، كالنظام الحالي، سوف يوقع على لبنان، المحاصر جغرافيا بسورية، عقوبات وإجراءات حدودية وسياسية لا يستطيع أن يحلها سفير أو قنصل. كان بالإمكان حلها عبر اتصال هاتفي مباشر بين الرئيسين، أو بين وزيرين، أو من خلال زيارة صداقة متبادلة لموظفين إداريين.

أكتفي بهذا القدر من حدث الأسبوع الباريسي الضخم. أريد أن استأنف الحديث عن العراق. قلت في الثلاثاء الماضي إن قلبي مع غزة بمأساتها تحت وطأة الحصارين الإسرائيلي و«الحماسي». لكن همّي الدائم هو العراق، أو بالأحرى عروبة العراق.

الإمارات دولة عربية شابة ورشيقة. دولة ذات سمعة طيبة، حتى لدى إيران الشاهنشاهية والخمينية التي تحتل جزراً إماراتية. إعجابي بالإمارات يبدأ من تقديري للراحل الشيخ زايد. سبق هذا البدوي الأصيل العالم كله بحرصه على البيئة من خلال شغفه الراقي بالخضرة والشجرة. ولا ينتهي التقدير أمام تصميم الشيخ محمد بن راشد على تحويل دبي إلى لؤلؤة مزدهرة بالتجارة الحرة والعمران وإيواء الفضائيات التلفزيونية.

لعل الغيرة العربية والأدب الديبلوماسي الجم، لا الضغط الخارجي، هما اللذان الهما الإمارات قرارها بالتطبيع الديبلوماسي مع العراق (فتح سفارة وإرسال سفير مقيم في بغداد) وإلغاء ديونها المترتبة على نظام صدام (سبعة مليارات دولار).

قد تقول لي، قارئي العزيز، كيف تأسف لإقامة حواجز ديبلوماسية بين سورية ولبنان، ولا تفرح لإلغائها بين العرب والعراق؟ جوابي اني كنت آمل في أن يكون التطبيع (تعبير سيئ السمعة) وإلغاء الديون قراراً عربياً جماعياً يصدر عن الجامعة أو عن القمة، أو على الأقل أن يكون قراراً خليجياً جماعياً، قبل أن يكون قراراً فردياً تتخذه دولة منفردة، ولو بحسن نية عربية نقية.

قبل التطبيع وإلغاء الديون، كان من الأفضل إلغاء التعويضات التي يدفعها العراق، من خلال الأمم المتحدة، إلى إسرائيل ودول عربية عن الدمار الذي ألحقه صدام. نعم، هناك أولا رغبة وقرارات عربية جماعية وفردية للتطبيع وإلغاء الديون. لكن الخطير أن العرب لم يتوجهوا إلى النظام الشيعي في العراق، بعد، بسؤال قومي واحد مختصر وصريح وحاسم: ما هي رؤية هذا النظام لعروبة العراق، وموقفه من وحدة ترابه، وعلاقته المستقبلية بالعرب والجيران والدولة المحتلة؟

يبدو أن جامعة عمرو موسى تستحي أن توجه السؤال إلى نظام العراق وحكومته. تطبيع عربي على ماذا وعملاء إيران يسرحون ويمرحون في العراق، كي لا أقول: ويحكمون؟ إلغاء الديون؟ لماذا إذا كان عبد العزيز الحكيم سند المالكي القوي يطالب العراق بأن يدفع مائة مليار دولار تعويضات حرب لإيران؟ تطالبون العرب بإلغاء الديون، وتطلبون من عراقكم التعويض على إيران التي تحتجز الأسطول الكامل لطيران العراق الحربي، وقيمته مئات مليارات الدولارات.

نعم، أمر مشجع ومساعد على التطبيع أن يكون موقف المالكي سلبيا من مشروع المعاهدة العسكرية مع الولايات المتحدة. لكن هل هو موقف مساوم في مفاوضات صعبة، أم هو موقف وطني وقومي صامد؟ جواب النظام الشيعي يلقي ضوءا على المستقبل الجيوسياسي للمشرق العربي بأسره. لا نعرف هل تبقى أميركا «جارة الوادي» لليلى المريضة في العراق؟ هل الجارة الجديدة ستلتزم بأدب الجوار، أم تستغل الجيرة للتهديد والابتزاز؟

الأمن مشكلة أخرى أمام التطبيع. تَحَسَّن أداء القوات المسلحة الحكومية. لكن ما زالت هذه القوات، باعتراف مدربيها الأميركيين، مخترقة بالميليشيات الشيعية الموالية لإيران. قُتل سفراء وديبلوماسيون عرب في بغداد. لم تقدم الحكومة العراقية نتائج أي تحقيق. الديبلوماسيون الأميركيون يتهربون من الخدمة في بغداد، حتى في سفارة محصنة على شكل قلعة. الرئيس جلال طالباني مقيم، لأسباب أمنية، غالبا في عاصمته الكردية (السليمانية). كاد الطالباني يفقد حرمه المصون في اعتداء مسلح على موكبها في بغداد.

الشيء بالشيء يذكر. النظام الشيعي مطلوب منه أيضاً الإجابة عن تساؤل عربي، إن حصل، عن وضع الأكراد في عراق محكوم شيعياً. طالباني وبرزاني يشاركان في حكم العراق، لكن لا يقبلان، حتى بمشاركة رمزية، لحكومة بغداد المركزية في حكم «كردستان». ثم ما هو موقف النظام الشيعي، إذا ما تحولت الحالة الانفصالية الكردية، إلى استقلال تام عندما تسنح الفرصة؟ إذا قبل العرب بتعددية العراق العنصرية والطائفية، فأية قيود على هوية العراق العربية، وسياسته التضامنية مع العرب تفرضها هذه العنصرية والطائفية؟

كيف يقبل العرب بتطبيع مع دستور يمزق عمليا وحدة تراب العراق. اللامركزية الإدارية حل عملي منشود للنزعات الجهوية في دول العالم العربي كله. لكن الفيدرالية (السياسية) باب يمهد لاستقلالات ضيقة وخطرة، أو لاستغلال الموارد، ولا سيما النفط، من دون تنسيق مع الحكومة المركزية.

أسأل العرب: كيف سيتم التطبيع مع طائفة واحدة تحكم وتدير نظاما يتلكأ في التطبيع والمصالحة مع الطوائف الأخرى؟ تبدو السنة أقرب إلى القبول بعراق واحد محكوم شيعياً. بل حملت السنة السلاح ضد مجرمي «القاعدة» الذين جندهم عملاؤها في الخارج لقتل العراقيين، سنة وشيعة، قبل «مجاهدة» الأميركيين. مع ذلك، حكومة المالكي ترفض ضم مقاتلي «الصحوة» السنية إلى القوات الحكومية، أو دفع مرتباتهم.

وهكذا، فالعراق بحجم مشاكله يتطلب موقفا عربيا جماعيا، لا فرديا. هذا الموقف، مع الأسف، ما زال غائبا. لا سؤال كي يكون هناك جواب. هناك تطبيع منفرد مجامل، تماما كما جامل العرب نظام صدام. وكان السكوت عنه من أسباب فجيعة العرب بغزو العراق، والسطو على هويته العربية وانتمائه القومي.