من يصلح الملح؟

TT

لماذا يؤيد مثقفون «تقدميون»، يقولون إنهم يبشرون بالتنوير والحرية والانفتاح، حزبا أصوليا كحزب الله اللبناني، الذي يعلن صراحة على لسان سيده نصر الله أنهم جزء من حزب الولي الفقيه؟

ولماذا يؤيد هؤلاء المثقفون جماعة أصولية حولت القطاع الذي تهيمن عليه إلى حقل تجارب للتطبيقات الأصولية على الناس والمجتمع، كما تفعل حماس في غزة؟

بل ولماذا يصل الأمر ببعض المثقفين العرب، أهل التنوير والتقدم، إلى وصف زعيم القاعدة بالشيخ المجاهد؟

الأمر يثير العجب والاستغراب حقا: من طرف نجد هذا المثقف العربي داعية للنقد والتنوير والتجديد، ناقما على الحكومات لأنها ضد التقدم والديمقراطية والمرأة والأقليات والتسامح، في نفس اللحظة التي يهتف فيها للجماعات الأصولية، من حمل السلاح منها ومن لم يحمل، هذه الجماعات التي تتنافى وتتناقض، جوهريا، مع فلسفة الحرية ومطلب الديمقراطية وفكرة التسامح الديني؟

تناقض، لكنه ليس بأول تناقض نراه في مجتمعانا العربية، ألم يصل الحال ببعض المثقفين العرب المسيحيين إلى الولع بثورة «الولي الفقيه» الخميني، والانخراط العاطفي فيها، ووصل الأمر بأدونيس، الرمز الحداثي الأشهر، إلى كتابة قصيدة مديح بثورة الخميني، منها قوله:

«شعب إيران يكتب للغرب:

وجهك يا غرب ينهار

وجهك يا غرب مات

شعب ايران شرق تأصل في أرضنا، ونبيّ

إنه رفضنا المؤسس، ميثاقنا العربي».

وكثير من هؤلاء المثقفين التقدميين يصطف الآن، بكل معنى كلمة الاصطفاف، خلف عباءة السيد حسن نصر الله، الذي هو فرد في حزب ولاية الفقيه حسبما افتخر، ويرى فيه الأمل العربي المشرق، كما قال الصحافي العربي الأشهر محمد حسنين هيكل في كلمة له مؤخرا أمام نادي القضاة المصري.

هل يخفى على هؤلاء المثقفين «التقدميين» التناقض الحاد، بين منطلقات وتصورات خطابهم الاجتماعي والفكري، وبين منطلقات وتصورات تلك الأحزاب الأصولية التي تعتبر نفسها ممثلة الخط الإلهي الهادي للخراف الضالة؟

أم أن فكرة التقدم والتحديث من الأساس لم تكن إلا قشرة واهية لدى هذه النخب؟

هل يخفى عليهم صراع النفي بين الأصولية السياسية والتحديث الفكري والاجتماعي، أم يتعمدون تناسيه أو تجاهله، أو لنقل: التقليل من شأنه وإرجاء النقاش فيه إلى اللحظة «المناسبة» لحين الفراغ من الأزمة الأهم والواجب الأكبر؟

حسنا، إذن فما هو «مركز» الاهتمام والانشغال الفكري والسياسي لدى المثقف العربي؟

إذا قلنا النخبة العربية الثقافية، فإننا نعني المشتغلين بالنقد السياسي الاجتماعي والثقافي، ثوريا كان أم إصلاحيا، وكان المسيطر على هذه النخبة منذ البداية التيار اليساري، في هذا الصدد يشير المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري لملاحظة مميزة، إلى فضائية الجزيرة (9 يونيو 2005) حيث يتذكر أنه في الستينات لم يكن لدى الإسلاميين: «مثقفون بهذا المعنى، كان يوجد شيوخ أفاضل فقهاء، لكن كلهم لم يكونوا جزءا من الحركة الثقافية، بمعنى أن فكرة المفكر أو المثقف الإسلامي لم تظهر إلا في السبعينيات، قبل ذلك كنا جميعنا من اليساريين».

كان اليسار بكل تفرعاته هو مهوى فؤاد المثقف العربي المستقل حينها، وهو المسرح الذي يجد تطلعاته الإصلاحية مجسدة فيه، وبعد هزيمة العرب أمام إسرائيل في حرب الأيام الستة سنة 1967، بدأ الانحسار اليساري، وأهمه التيار الماركسي، حيث تحول كثير من أهله، ممن ما زالوا يحملون حرارة النضال، إلى التيارات الدينية المسيسة، اللاعب الجديد الذي حمل راية القيادة الجماهيرية وواصل سباق التتابع، آخذا الراية من اليسار المعارض، ومع أخذه لها، أخذ معها ثقافة حركية وتنظيما ثوريا لم يكن له به عهد، على أنه من المهم هنا الإشارة إلى أن تحولات اليسار نحو الإسلاميين ليست محدودة او محصورة بمرحلة ما بعد هزيمة 67، فرجل مثل سيد قطب دخل الى الاخوان من الخمسينات، ونفخ في روحهم نفحة يسارية نضالية بعمامة اسلامية، فصار مفهوم «الطليعة الثورية» عند الماركسية اللينينية هو «الجماعة المؤمنة» حسب صياغة سيد قطب... وهكذا.

ثم تتابعت وفود التوابين من اليسار والماركسية إلى حضن الإسلامية الميسرنة (نسبة لليسار) وتم شحن مفاهيم وتصورات يسارية في الطرح الديني القديم الذي هو طرح «شيوخ أفاضل» وليس طرح مفكرين، حسب ملاحظة عبد الوهاب المسيري، فتعمقت المعارضة الدينية وتعصرنت وجددت وأغنت قاموسها السياسي المعارض، من رفض ديني مغلق للغرب الكافر أو الغازي، إلى صيغ رفض أكثر عصرية وقربا من روح الوقت، وطيلة عقد السبعينات إلى 11 سبتمبر 2001، ازدهرت مقولات مثل «الغزو الثقافي» و«الغرب المتوحش» وأمريكا: الورشة الضخمة (هذه من قاموس سيد قطب). لقد كان الرفض أصيلا لدى التيارات الأصولية، لكنه تعمق أكثر في لغة ومفاهيم العصر، من خلال انزياح عدد من المثقفين والمفكرين الاذكياء الى مواقع مساندة للأصولية السياسية، او من خلال استفادة اذكياء الاصولية من اطروحات مناهضين للغرب والامبريالية من مواقع اخرى غير اصولية، مواقع وطنية أو نضالية بحتة، مثل الفلسطيني الأمريكي ادوارد سعيد، وغيره من أعداء الغرب أو الامبريالية بشكل مطلق ونهائي و«عقيدي» لدرجة إنتاج هؤلاء المثقفين التقدميين «الرفوضيين» للغرب، لمفاهيم قطيعة وانفصال، تضاهي مقولة «الولاء والبراء» الكلاسيكية العتيقة، ليجد الولاء والبراء شكله الجديد عند مفكر منتقل من اليسار إلى مواقع قريبة للتيارات الأصولية كالمسيري من خلال مفهومه عن «التحيز المعرفي» وتحيز المعرفة المنتجة من الغرب، وعدم حيادية المعرفة الإنسانية تجاهنا، لأنها أنتجت من الغرب، وهو مفهوم انفصالي يؤدي، في نهاية المطاف، ذات النتيجة التي يؤديها مفهوم الولاء والبراء في التضاد والحرب على الهوية، لكن بشكل أكثر عصرية ومنهجية أحدث.

هل أصيب مثقفونا ونخبتنا بـ«مرض الغرب» أي مرض كره الغرب؟ كما يقول الناقد السوري جورج طرابيشي في كتابه الممتع (المرض بالغرب) الذي حلل فيه نفسيا وفكريا هذا الموقف «العصابي» للمثقفين العرب تجاه الغرب، ومن أجل إغاظة الغرب يدوسون على فكرة التقدم الداخلي، ولو تدمر الكل، كما في مناصرتهم لحزب الله الذي دمر «انتصاره» لبنان وأخرجه، أو كاد، من الانشغال بالتنمية! كله سائغ في سبيل الحرب ضد الغرب، وذلك من أجل إثبات الذات وحماية الوجود، ومن أجل معركة الهوية (مع أننا لم نتوقف لنناقش صحة تهديد الهوية بالشكل التهويلي الذي يقوله خطاب الرفض الثقافي العربي).

في هذا الصدد يذكر طرابيشي عبارة صادمة تبين المدى الذي يمكن أن تصل إليه نخبتنا في سبيل بقاء نار الرفض المقدسة حية، قالها الأستاذ طارق البشري الذي وقف في ندوة ببيروت سنة 1980 وهتف بكل صراحة: «اذا كان التطور يرفضني فلست من أنصار التطور، وإذا كان التقدم ينفيني ويسحقني كجماعة فإني إذا لمن الراجعين». مع أنه لا تلازم بين التطور والتقدم ونفي الذات وسحقها، إلا إذا كانت هذه الذات، بطبيعتها، مستعصية على الحياة!

تهميش التحديث والتقدم في المجتمعات العربية بحجة أولوية النضال والمقاومة ضد الخارجي، هو جوهر المرض في حركتنا، وهو سر تعثر كل محاولات التنمية وبقائها دوما في حالة ضعيفة مثل فتيل الشمعة التي تطفئها أدنى هبة هواء «مقاومة»، فنخبتنا العربية حقنت شرايين العقل العربي والوعي الجمعي بمقولات عن مركزية المقاومة والممانعة، وضخمت المخاوف إلى درجة الهوس، من الغرب، و«أسطرت» قضية فلسطين، للدرجة التي تحولت معها قضية فلسطين إلى تابو يمنع النقاش فيه أو الاقتراب منه، تماما مثل تابو المحرقة النازية لدى اليهود. والنتيجة انه لا فلسطين كسبت من ثقافة تقديس الرفض، ولا التنمية أقلعت في الداخل.

النخبة ـ في جلها ـ معطوبة، وأعطبت معها الجمهور، وحزب الجمهور الأصولي، أكثر مما هو معطوب، والشاعر الأول يقول: من يصلح الملح إذا الملح فسد!