إدارة التوحش.. وجذوره الأيديولوجية

TT

يمثل تنظيم القاعدة وما يحمله من فكر إرهابي تدميري متطرف، منسوباً إلى الإسلام، لغزاً محيراً للكثير من الدارسين للتاريخ الإسلامي، والذي يجد فيه بعض الباحثين محطات من العنف والاقتتال، إلا أن درجة العنف والدمار الذي يمارسه تنظيم القاعدة، ويروج له على أنه فكر إسلامي ممنهج، يثير الكثير من التساؤلات حول الجذور الفكرية لهذا التنظيم فهل هي دينية ؟ أم ايدلوجية سياسية ؟

وبتتبع خطاب التنظيم، وفترات المد والجزر، التي مر بها خلال السنوات الماضية، وما استقر عليه أخيراً، من أن الاعتماد على الخطاب الديني، المتمثل في عسف النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، للترويج لفكره، واستقطاب أتباع جدد، هي استراتيجية تم تجاوزها، بعد أن نجحت في ترسيخ صورة نمطية في أذهان العامة عن التنظيم وتوجهه الديني، حسب رأي قادته، وأنه لابد من الانتقال إلى المرحلة الأساسية التي وجد التنظيم من أجلها، وهي مرحلة إقامة الدولة، وما يسبقها من مراحل، مما فرض على التنظيم تقديم رؤيته السياسية بأسلوب أقرب ما يكون إلى النظرية السياسية العسكرية المبسطة، وأبعد ما تكون عن الخطاب الديني، وهذا ما أكده كتابهم إدارة التوحش حيث يقول: «إن العمل السياسي مهم جداً وخطير حتى قال أحدهم إن خطأً سياسياً واحداً أوخم عاقبه من مائة خطأ عسكري»، ويقول: «هذا القول على ما فيه من مبالغة كبيرة إلا أنه صحيح بقدر ما يبين خطورة الخطأ السياسي».

فالكتاب جعل العمل السياسي مقدماً على الشرع فنجده يُخطئ اتباعه المخالفين ويقول: «ومن ذلك نعرف غلط من يطالب بالنص الشرعي الذي يدل على ما يقرره الأمير من أمور السياسة الشرعية التي هي من واجباته».

إذن العمل السياسي لديهم مناط بالقادة فقط، ولا يسمح للأعضاء، بمطالبة القادة للاحتكام للشرع، أو حتى مناقشتهم في ذلك فيقول: «فالقادة لاشك تعرف كثيراً من أسرار العمل، لذلك في خطتنا نفتح باب الإدارة على مصراعيه لمن يتقنه، أما باب القيادة فهو للثقات فقط». وفي مكان آخر نجده يناقض نفسه في علاقة الشرع بالسياسي فيقول: «هذا التوحش وعدم الأمان بسبب بعض العصابات أفضل شرعاً وواقعاً من سيطرة السلطات على الأوضاع».

فأين هذا الفكر الداعي للفوضى مما ُذكر في مجموع فتاوى ابن تيمية وكذلك في السياسة الشرعية لابن تيمية من أنه «روي أن السلطان ظِلُ الله في الأرض. ويقال: ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان».

من هنا يمكن الاستنتاج، بأن معظم الأعضاء في القاعدة، مغيبون تغييباً كاملاً عن الأهداف السياسية لقادة التنظيم، وهذه إحدى الاستراتيجيات، التي قامت عليها التنظيمات الشيوعية، مستخدمةً أسلوب تنظيم الخلايا، وهي أشبه ما يكون بشبكة العنكبوت يمثل فيها الفلاحون والبسطاء فكرياً، نسيج تلك الحركات، ومع ذلك فهم معزولون عن مركز القرار ومعرفة أهداف التنظيم السياسية، فيعيشون في حلم ما ينظره لهم قادتهم، لذلك تعمل التنظيمات الشيوعية على استبعاد شريحة الطلاب والمثقفين من العمل الحركي وهذا ما تنتهجه القاعدة فيقول: «في كتاب إدارة التوحش» إن إمكانية ضم مليون من أمة المليار أسهل من ضمهم من شباب الحركة الإسلامية الملوث بشبهات مشايخ السوء، فشباب الأمة على ما فيهم من معاصي أقرب للفطرة وخبرات العقود السابقة أثبت لنا ذلك، فالشباب النابه المتحصن بالعقيدة الصحيحة الذي يحرجهم بالحجج الشرعية التي تكشف شبهاتهم، هو الشباب الملوث وبالتالي يستعصى تجنيده.

كما رسخ التنظيم، الإرهاب الفردي، فجعله أمراً مقدساً، وأطلق عليه لقب الاستشهاد، وأن ما يقوم به هؤلاء الشباب، في عملياتهم الفردية الاستشهادية (الانتحارية) هي التي سوف تحقق التمكين والغلبة ويقول: «عن رغبة الشباب المحمودة في الوصول إلى منزلة الشهادة في أقرب فرصة والتي ينبغي توجيهها لمصلحة العمل». وهذا المنهج هو أيضاً ما كانت تمارسه الحركات الشيوعية، في أعقاب الثورة الاجتماعية في روسيا، ففي بداياتها كانت تشجع وتحرض على العنف والإرهاب الفردي، والترويج للرأي القائل، بأن الأفراد الأبطال، هم من يصنعون التاريخ بتضحياتهم، إلا أن الكتاب لم يستطع، أن يذكر دليلاً واحداً مقنعاً، بأن العنف والعمليات الانتحارية كمنهج، جذورها إسلامية، بل على خلاف ذلك فقد أقر من حيث لا يدري بأن الإسلام أبعد ما يكون عن العنف والإرهاب فيقول: «ومن مارس الجهاد من قبل علم أن الجهاد ما هو إلى شدة وغلظة وإرهاب وتشريد واثخان ـ أتحدث عن الجهاد والقتال لا عن الإسلام فلا تخلط».

نعم يجب أن لا تخلطوا أنتم، فالإسلام ليس ما تنادون به، بل هو دين الرحمة والرأفة، فعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيشاً قال له: «انطلقوا باسم الله لا تقتلوا شيخاً ولا طفلاً صغيراً ولا امرأة ولا تغلوا» رواه أبو داود.

فأين أنتم من هذا ؟

كما جعل الكتاب الاقتصاد الهدف الرئيسي في نظرية العنف والفوضى تلك فيقول: «الأهداف التي نطلب التركيز عليها وأسباب ذلك: قلنا إنه ينبغي علينا أن نضرب جميع أنواع الأهداف الجائزة ضربها شرعاً إلا أننا يجب أن نركز على الأهداف الاقتصادية وخاصة البترول». وعند الوصول لمرحلة شوكة التمكين وقيام الدولة كما يحلمون يقول: «وإن الأموال التي ستدفع مقابل بترول المسلمين لا تدخل بعد اليوم في خزانة الأنظمة المثقوبة بثقب ينفذ إلى بنوك سويسرا وإنما تتسلمها لجان شعبية، وتقوم هذه اللجان بإنفاقها على الشعوب المحتاجة وذلك بعد دفع مرتبات العاملين في قطاع البترول، هذه اللجان الشعبية تتكون من أشخاص ثبت أمانتهم».

لذلك نجد أن استهداف الاقتصاد والبترول بصفة خاصة، لا يمكن فصله عن الجانب الايدلوجي، الذي يتبناه الفكر الشيوعي، القائم على توزيع الثروة، والغاء الطبقية، وايجاد طبقية حركية، متمثلة في الحزب الشيوعي وأعضائه، وهو ما عبر عنه في الكتاب، باللجان الشعبية التي جعل من يقوم عليها، في مصاف قادة التنظيم كونهم فوق الشبهات، وهم نخبة التنظيم كما هي في الحزب الشيوعي.

وفي الجانب الإعلامي، يركز الكتاب، على ضرورة مخاطبة العوام، وهم ما يعرف بالجماهير والبسطاء في الحركات الشيوعية فيقول: «إلا أنه ينبغي التركيز أكثر على تخيل صحيح لعقلية العوام وما أكثر الأفكار التي تعوقهم عن الالتحاق بصفوف الجهاد خاصة أن لهم طريقة في التفكير وعاطفة تختلف». وقد أخفق الكتاب مرة أخرى، رغم محاولاته أن يقنع القارئ، بأن إدارة التوحش التي ينادي بها لها جذورها الإسلامية (كمنهج)، فلم يستطع أن يُسوق فكرته تلك، لا عن الحاضر ولا عن الماضي. بل أبدى إعجابه بالحركات الشيوعية في إدارتها للتوحش، وجعلها المثل الذي يحتذى فيقول: «نعود للأمثلة المعاصرة لإدارات التوحش ونركز هنا على الحركات غير الإسلامية ومنها حركة اليساريين في أمريكا الوسطى والجنوبية ولعل اليساريين ابدعوا في بعض النواحي العملية في إدارة مناطق التوحش هناك وبعضهم أقام دولا».

وبعد تلك المحاولة البسيطة، لتفكيك هذا الفكر، هل نستطيع أن نقول إن القاعدة قد انتهجت نظرية العنف، والإرهاب الشيوعي، التي بدأت في تمجيد الإرهاب، والعنف الفردي في بداياتها، وصولاً إلى المرحلة التي نظـَّر لها (لينين) والتي تعتبر الشعب (الأمة في نظر القاعدة) وليس الفرد هو الصانع الحقيقي للتاريخ. ليقوم التنظيم بتبني ما يسمى بنظرية العنف الثوري، القائم على الفوضى، والذي تمارسه طبقة ضد أخرى، ومن خلال إقامتها لدولتها المزعومة، مستخدمة كافة وسائل التضليل، والتعتيم على أتباعها للوصول لهذه المرحلة.

وللإجابة على ذلك لابد لنا من دراسة معمقة للتجارب التاريخية التي مرت بها الدول العربية مع الفكر الشيوعي ورموزه وما يحمله من تراث إرهابي وهل هذا الوليد المشوه فكرياً هو نتيجة لذلك التزاوج الفكري المحرم بين الشيوعي والإسلامي داخل عنابر السجون العربية وخاصة في مصر خلال الستينيات الميلادية ؟!

[email protected]