مأزق الدولة العربية؟!

TT

قامت مجلة «السياسة الخارجية» الأمريكية والتي تصدرها مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي في عدد يوليو الجاري بإعداد دراسة عن الدول «الفاشلة» في العالم؛ وقد قسمت الدراسة دول العالم إلى خمس درجات: الأولى تكون فيها الدول في حالة حرجة من الفشل؛ والثانية تقع فيها الدول التي تعاني أخطار الوقوع في هذه الحالة المحزنة؛ والثالثة هي الدول التي تتأرجح بين الاستقرار وعدم الاستقرار ويمكنها أن تتحول في أي من الاتجاهين حسب ما تقوم به نخبتها السياسية؛ والرابعة هي الدول المستقرة والتي لا يوجد فيها مشاكل داخلية؛ والخامسة هي الدول المستقرة جدا أي التي لا تطرح فيها فكرة تعرض الدولة للخطر. وهذه مجموعة قليلة من الدول تضم استراليا وكندا والدول الاسكندينافية وآيرلندا وجمهورية التشيك واليابان. ومن المدهش أن الولايات المتحدة لا تقع ضمن هذه المجموعة من الدول وإنما في المجموعة السابقة عليها أي «المستقرة» والتي تتجاور فيها مع دول أوروبا ومنغوليا والبرازيل. أما بقية دول العالم فهي تتراوح ما بين أن تكون دولا فاشلة بالفعل، أو على وشك أن تكون كذلك، أو هي متأرجحة بين حالة الاستقرار وعدم الاستقرار. وبين هذه التقسيمات المختلفة وقع من الدول العربية في الجماعة الفاشلة كل من العراق والسودان والصومال؛ ومن الدول التي تعاني أخطار الحالة كانت هناك مصر وسوريا واليمن؛ أما الدول المتأرجحة على الحافة فهي بقية الدول العربية ما عدا عمان التي كانت الدولة المستقرة الوحيدة.

وتعبير «الدولة الفاشلة» واحد من التعبيرات المستحدثة في فقه العلاقات الدولية، وربما كان أحد النتائج التي جاءت بعد انتهاء الحرب الباردة والتغيرات التي طرأت على النظام الدولي خلال التسعينيات. وببساطة فإن الصراع الأمريكي السوفيتي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لم يسمح كثيرا بفشل الدول، فقد كانت واشنطن أو موسكو أو كلاهما معا لا تسمحان بفشل الدول لأن ذلك قد يمثل ساحة للدولة الأخرى والمعسكر الآخر لك تفرض فيها نفوذها وجماعتها الفكرية والمذهبية. وحتى عندما كان ضروريا أن تنشب الحروب الأهلية فإن هذه الحروب لم تكن تؤدي إلى «فشل» الدولة، وإنما إلى انقسامها بين أطراف لا تلبث بعد مرحلة من الصراع أن تعود مرة أخرى للتواؤم والاتفاق. وعندما نشبت الحرب الأهلية في لبنان مرتين ـ مرة في عام 1958 و1974 ـ فإن هيكل الدولة ظل على حاله، وكان هناك رئيس للجمهورية، وعملة واحدة، وبنك مركزي واحد، وحرصت الحكومة في كل الأحوال على دفع مرتبات العاملين من المعسكرات المتحاربة.

الدولة الفاشلة كانت أمرا آخر مختلفا تماما حيث لا تنقسم الدولة وإنما تتحلل كل مؤسساتها التنفيذية والتشريعية والقضائية وتعيش حالة ممتدة من العنف الذي تسود فيه حروب متعددة يصعب بعد فترة من استمرارها معرفة أصولها الطائفية أو القبلية، وفي كثير من الأحيان تتحول الدولة إلى مشروع تجاري لفرقاء عدة يحصل بعضهم على ضرائب وجمارك، أو على عائد واحد من المعادن النفيسة. المهم هنا أن هناك معايير لتقييم هذه الحالة من الفشل تضم الضغوط السكانية، ووجود اللاجئين والنازحين، والجماعات الغاضبة، والفرار البشري، والتنمية غير المتكافئة، والأوضاع الاقتصادية، وشرعية الحكم، وحالة الخدمات العامة، وحقوق الإنسان، وحالة الجهاز الأمني، وانقسام النخبة، والتدخل الخارجي. وفي كل هذه المعايير يوجد مقياس من 1 إلى 10 حيث يكون 1 ممثلا لأقل الحالات حدة، و10 تمثل أكثرها حدة، ويشكل المجموع الكلي حالة الاستقرار في الدولة. وكانت النتيجة لمجموع هذه النقاط مزعجة بالنسبة لكل الدول العربية، سواء كانت فاشلة بالفعل، أم تعاني من مظاهر الفشل، أم تتأرجح على الحافة بين الفشل والاستقرار.

ولكن مثل هذه التقديرات لا ينبغي لها أن تخضنا لأن مؤشراتها من ناحية، قاصرة، ومن ناحية أخرى فإن تجميع المعلومات كميا عن كل معيار هو قاصر كذلك. فمثل هذه المقاييس لا تميز بين استقرار الدولة والحكومة والمجتمع السياسي وهذه مفاهيم أساسية لفشل الدولة حيث يتعدى الأمر الحكومة إلى المجتمع والدولة. ولا يوجد في مثل هذا المقياس شيء عن الثقافة السياسية أو دور المجتمع المدني، ومدى مرونة الحكومة ساعة الأزمات، وكلها لو كانت فيها درجات لحصل عدد من الدول العربية على درجات أعلى. ففي ثقافة سياسية تميل إلى الاستقرار بطبيعتها وتتجنب العنف وتركز طوال الوقت على «الثوابت» وتجد صعوبة عظمى في التعامل مع «المتغيرات»، فإن فكرة انهيار الدولة تماما لا يحدث بسهولة.

ولا يقل عن ذلك أهمية الطريقة التي يتم بها قياس المؤشرات التي تم الاستقرار عليها، ورغم أن عددا من الدول العربية تعاني من ضغوط سكانية إلا أن هذه الضغوط تتراجع في بعضها ولا تتزايد في بعضها الآخر، بل ان هناك بلدانا تعاني من خفة سكانية، وفي كل الأحوال هناك وعي متزايد بأهمية المشكلة وارتباطها بمعدلات النمو والتعليم. ورغم وجود حساسيات اجتماعية بين الأديان والطوائف والمذاهب، إلا أنها بعيدة عن كونها متفجرة في كل البلدان، وهي على أي الأحوال جزء من الاهتمام العام في المجتمع، وهناك تقاليد تاريخية تحميها. وإذا كان هناك من ملاحظة خلال السنوات الأخيرة في الدول العربية فهي الفشل الذريع لعمليات التدخل الأجنبي في السياسات الداخلية، ولعلنا نتذكر كل ما فعلته الولايات المتحدة خلال السنوات القليلة الماضية لتغيير أمور كثيرة في القضية الديمقراطية بدون جدوى من خلال موضوع الشرق الأوسط الجديد.

كل ذلك يجعلنا نؤكد أن الدولة العربية ليست كلها فاشلة أو قريبة من الفشل بمقاييس مجلة السياسة الخارجية، وربما لو كان هناك مرض في عدد من الدول العربية فإنه الاستقرار الزائد وضعف القدرة على التغيير. ومع ذلك فإن الدراسة تظل مهمة في كل الأحوال لأن بلدان العالم لا تبقى على حالها، ومن الضروري دوما التركيز على أخطار قائمة وضرورة قياسها بشكل مستمر. وفي العموم فإن عام 2008 شهد تراجعا كبيرا في عمليات الإصلاح السياسي والاقتصادي في عدد من الدول العربية نتيجة الثورة في أسعار النفط التي جعلت هذه الدول تتخلى عن الإصلاح الهيكلي وتستبدله بعمليات توزيعية للموارد. ومثل ذلك يمكنه أن يكون حلا مؤقتا، ولكنه لا يحل المعضلات الأساسية للدولة العربية سواء تلك المتعلقة بالهوية أم المتعلقة بنظام الحكم، أم كفاءة النظام السياسي والاقتصادي والإداري للدولة. ومن المدهش أن دراسة مجلة «السياسة الخارجية» وضعت مصر المشهود لها باستقرار تاريخي في هذه المكانة المتدنية، حيث كان مجموع ما حصلت عليه مصر هو 88.7 نقطة، بينما حالة الصومال، وهي المثال الحى على الدولة الفاشلة، هي 114.2 نقطة. ولكن بغض النظر عن مشكلات القياس الواردة في الدراسة وهي حقيقية حيث ارتفعت معدلات النمو والتعليم وأدى ذلك إلى تقلص النمو السكاني بحيث انخفض من 2.8% خلال الثمانينيات إلى حوالي 1.8% الآن. كما أن النمو الاقتصادي في مصر مرتفع بكل المقاييس العالمية ولا يمكن اعتبار نسبة النمو 7.5% من النسب المتواضعة أو القليلة. ولكن كل ذلك لا يجعلنا نتجاهل تقدير الحالة المصرية من قبل العديد من التقارير الدولية سواء كانت هذه التقارير ذات طبيعة اقتصادية أو ذات طبيعة سياسية أو اجتماعية. وحدث ذلك بعد أن كان هناك نوع من ثورة توقعات كبيرة بخصوص مصر في أعقاب التعديلات الدستورية عام 2005، وما أعقبها من حالة حراك سياسي سار جنبا إلى جنب مع الحراك الاقتصادي. الآن فإن القضية تبدو مختلفة، سواء على الجبهة الاقتصادية أو السياسية، وربما يحتاج الأمر إلى قدر غير قليل من المراجعة ليس فقط بالنسبة لمصر، والدول العربية التي بات عليها أن تنظر إلى مثل هذه الدراسات ليس على قبيل محاولات التشهير الأكاديمية، وإنما لأنها تحاول الاقتراب من الحقيقة الصعبة في بلادنا. ولأنها هذه المرة تخص الدولة، ولدينا ما يدل على أن الدولة العربية ليست في حال جيدة رغم الثروة البترولية، وأن هناك حالات حقيقية من الفشل المزمن، فإن مراقبة الخطر، والعمل على التوقي منه ربما يكونان أقرب إلى الحكمة!