العرب في اتحاد المتوسط

TT

كان أجدر بسوريا أن تقدم هديتها، المتمثلة في تطبيع علاقاتها مع لبنان، لمحفل عربي، كدواليب الجامعة العربية مثلا، أو تقدمها بمناسبة استحقاق سوري لبناني، ولكنها آثرت باريس للإعلان عن قرارها.

وكذلك لن تتفضل الجزائر على محفل مغاربي أو عربي، لتعلن عن فتح حدودها مع المغرب، فهي قد تفضل أن تقدم الهدية إلى أوباما أو ماكين، لأن سلعا من هذا القبيل لا تباع بالعملات المحلية. كما أن الفلسطينيين الذين حنثوا المرة تلو الأخرى باليمين الذي أكدوا به التزامهم بالكف عن مواجهاتهم الأخوية، لن تغريهم الكاميرات العربية، بالمثول أمام الرأي العام لإعلان الانصياع إلى العقل، وإنهاء الإدمان على الرفض المتبادل، الذي يعقب كل لقاءاتهم التصالحية. من قديم، نعطي للغرباء أدوارا تظهرهم في مقام أصحاب الكلمة العليا. وبهذا الشكل ذهبنا إلى لقاء الاتحاد من أجل المتوسط، تلك المبادرة التي تبني بها فرنسا منبرا ستمارس فيه زعامة جهوية، ولها فيها مآرب أخرى. وجدتني هذه الأيام أردد في مجال تبيان مزايا الاتحاد من أجل المتوسط، أنه سيكون إطارا آخر للعلاقات العامة، قد يسمح بتطوير صيغة برشلونة، وصولا إلى عقد صفقات وتوافقات جديدة ومفيدة. وأما إذا كان العرب سيستفيدون من الحلقة الجديدة للاتصال والتحرك، فكما كان الأمر منذ ثلاثة عشر عاما في برشلونة، يرتبط الأمر بقدرتهم على استنباط المنافع. والقدرة هنا ليست حتما مادية، فمن الواضح أن مجموع اقتصادات الأقطار العربية تكاد تماثل بلدا أوروبيا واحدا هو إسبانيا، كما ورد في تقرير التنمية البشرية العربية سنة 2003. إن القدرة تكمن في التخطيط وفي الوزن النوعي، والنفوذ المعنوي، وهذا أمر لا يتطلب شرحا طويلا. يمكن للعرب أن يصنعوا ما يستطيعونه.

يتطلب الأمر التصرف بكيفية عقلانية، في شؤوننا وفي ضبط تفاعلنا مع المحيط الدولي. ومن قديم يعوزنا التصرف بعقلانية، سواء على هذا المستوى أو ذاك. وهناك على الخصوص، فيما يتعلق بتدبير علاقاتنا داخل المجموعة العربية، خصاص في المنطق. وفيما يتعلق بتدبير علاقاتنا مع الشركاء هناك حسابات خاطئة. وهذا يجعل وزننا في المحافل الدولية هزيلا. فيبدو لطرف من الأطراف أن يبيع موقفه بسعر مرتفع، ولكن يضطر في نهاية الأمر إلى أن يقبل أي ثمن يعرض عليه، ويذعن للمشاركة من أي موقع.

ولكي لا يكون الأمر كذلك، أي ألا يكون حضورنا في هذا المحفل وذاك، هزيلا، يجب أن تكون لنا نظرة واضحة عن أنفسنا كأقطار وكمجموعة، ونظرة واضحة عن شركائنا كأقطار وكمجوعة. أي أن نتصرف انطلاقا مما نريده لأنفسنا وما نريده من الآخر.

سيكون الاتحاد من أجل المتوسط محفلا يتجدد فيه البحث عن فرص أخرى للتعاون بين الدول المشاطئة لهذا البحر التاريخي، وللتعبير مرة أخرى عن وجود فرص لحوار وتعاون جديين. وهو على الأقل من حيث التسمية يصحح خطأ مفاهيميا، نبه إليه الرئيس الإسباني السابق فيليبي غونثالث، الذي نبه إلى القدر الكبير من المغالاة الموجود في النظرة المركزية الأوروبية، وقال إن التعبير عن تلك النظرة مضمن في عبارة «الشراكة الأورو متوسطية». وقال إن هذه العبارة تشي بأن الأوروبيين ينطلقون من أنهم سيتزوجون بالبحر الأبيض المتوسط، ولا يعتزمون التعامل مع من يوجدون حوله، وبالتالي لا يقرون بأنهم مجرد أعضاء فيه.

ولا تحيل التسمية على أن الأوروبيين يقبلون شراكة بينهم وبين من يوجدون في الضفة الجنوبية، بل على شراكتهم مع البحر نفسه. وتسمية من ذاك القبيل تفيد أن الذي أطلقها لا يستحضر أن هناك شركاء، رغم أن التغطية الكبيرة لفكرة برشلونة كانت هي شعار «الشراكة»، التي تتطلب أن يكون هناك اثنان. والأمر قريب من ذلك الآن، نوعا ما، لأن المبادرة الفرنسية الحالية، مثل مسلسل برشلونة، مشروع ينطلق من رؤية لأوروبيين معروضة على دول المتوسط الأخرى. فهم المصممون والعارضون وغيرهم يقبل أو يعدل ما هو موجود.

ولا يعيب الأوروبيين أن ينطلقوا من مصلحتهم. كما أنه مقبول جدا أن يفكر العرب في مصلحتهم هم. وبالتقاء المصالح تتم أفضل الصفقات، المربحة لكل الشركاء.

إلا أن هناك عنصرا تفوق مسجلا منذ البداية لصالح الطرف الأوروبي، هو أن دول الاتحاد الأوروبي التي تتكلم ثلاثا وعشرين لغة مختلفة، كلها مقبولة في حظيرة الاتحاد، يقع التفاهم فيما بينها بفضل وجود تطابق في المفاهيم، والمعاني التي تحملها تلك اللغات. والأمر مختلف تماما بالنسبة للمجموعة العربية التي تتكلم لغة واحدة، وتتداول نفس المفردات، ولكن تلك المفردات لا تحمل نفس المعني من متحدث إلى آخر، ومن مناسبة إلى أخرى، ومن محفل إلى آخر.

ومن مناسبة إلى أخرى تتدهور مواقف العرب، وتتلاشى حمولة الكلمات التي تعبر عن انشغالاتهم. ففي برشلونة كان المقصود بالمسألة الفلسطينية أقرب ما يكون إلى الوضوح. وهو أمر لا يمكن ادعاؤه اليوم، إذ أصبح عند الفلسطينيين أنفسهم عدة قراءات لعبارة «الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس». فمدلولها في غزة غيره في أريحا. وقس عليه، ما يتفرع عن ذلك من قراءات متعددة لعبارات الحل العادل والحل النهائي. وهذا المثال إنما هو أوضح من غيره في الاستدلال على أن الأولويات المسطرة قابلة للمناقشة.

منذ أكثر من ثلاثين سنة كانت الدول الأوروبية قد أكدت عزمها على أن تولي المسألة الفلسطينية الأولوية التي تستحقها. ونصت في «بيان البندقية» الشهير على أن السلام في الشرق الأوسط رهين بتلبية الحقوق المشروعة وغير القابلة للتفويت للشعب الفلسطيني. ومنذ ذلك الوقت حتى الآن أصبحت هذه العبارة ذات مدلول واضح، وهو وجود دولتين، إحداهما ما زالت إقامتها يلحقها التسويف. ومنذ أسابيع كان الرئيس ساركوزي قد أعلن في الكنيست الإسرائيلي نفسه، أن ذلك الهدف لم يتحقق بعد، وأنه بدون تحقيقه سيبقى السلام معلقا في الشرق الأوسط. ويعرف الكثير من شركاء ساركوزي في الاتحاد الأوروبي أن شرعية وجود إسرائيل تبقى ناقصة، ما لم يوقع عليها الشعب الفلسطيني، حينما يتمكن من إقامة دولته الوطنية وعاصمتها القدس. وقال ساركوزي بشجاعة، تذكر بشيراك وميتيران، إن القدس يجب أن تكون عاصمة للدولتين.

قال ساركوزي كلاما آخر لفائدة إسرائيل، وبالخصوص تأكيده للأولوية التي يمثلها وجود إسرائيل وأمنها. وبالتجربة نعرف أن ذلك الشق من الخطاب الأوروبي المتعلق بوجود إسرائيل وبأمنها، يكون عادة مكتوبا بالحبر الصيني، بينما الشق الآخر يكتب بمداد قابل للتلاشي. من قبيل كلام الليل الذي ينسيه النهار. أو باللغة الإسرائيلية، مجرد «اتفاق مبادئ».

والتفسير الوحيد لهذا الوضع هو أن العرب لا يتصرفون في هذا الشأن، كما في غيره، كمجموعة. وطروحاتهم تتدهور حمولاتها من فترة إلى أخرى. ولا تسعفهم حيرتهم بأن يحققوا مكاسب ما أجدرهم بها لو لم تكن قلوبهم شتى. وهناك غالبا تفوق يمارسه شركاؤهم الذين يتقدمون بعروض مدروسة، تجعل كلمتهم هي العليا، ويتكلمون لغة واحدة. وقد ثبت هذا في باريس يوم الأحد، إذ أمام لغة الأوروبيين الموحدة، كان لا بد من وجود ترجمة لمدلول الكلمات كما هو متداول في عاصمة عربية إلى المدلول المتداول في عاصمة أخرى.