العراق.. الوطن لا بَيت العَنكَبُوت!

TT

لا أجد ما يناسب معاملة إيران وتركيا للعراق ووهنه، أقل من التشبيه بَبَيْتِ الْعَنكَبُوتِ، واستباحتهما له بمنطق الكناية الشعبية: «مَيّل زرعك عن دوابي». تركيا بجيشها وسدودها العملاقة، وإيران بجيشها السري والعلني. طلبتُ الكناية عن الشراهة بالتعدي فلم أجدها في مجامع الكنايات البغدادية، ولا في ما رصده الضابط المثقف عزيز جاسم الحجية (ت 2000)، منها في شعر الملا عبود الكرخي (ت 1946). أيقنت بعدها أنها جنوبية النُجار، يوم كان الزرع (التمن) والدواب (الجاموس) مبذولين، مع اختلاف الصيغة من زمن إلى آخر. ففي أمثال البصرة وردت: «زِمّ زرعك عن دوابي». أياً كانت الصيغ، هلا تخيلتم التعدي بإزاحة أو زَمّ الحقول لمرور الدواب؟! أرى حال العراق هكذا مع الجارتين، وكأنهما يحتويانه بصولات سلطان عثماني وشاه صفوي!

أراها مواسمَ وتسقط الكناية من الذاكرة، بعد إغراق مدن وقصبات العراق بما تزرعه الحقول التركية والإيرانية. فما عاد راشد يزرع ولا زينب تحصد، وهما النموذجان في كتاب قراءة محو الأمية، وقد ذَكَّر السادات (قتل 1981) دولة البعث، إثر قمة بغداد (1978)، وكانت أزمات متوالية، بعبارته المصرية: «أُمال راشد يعمل إيه»!

حالياً، لم تعط آبار العراق الهائلة كازاً تدور به ماكنة راشد، العربي والكوردي على حد سواء، فشمالنا أخذ يستورد الجوز واللوز، وهما كانا في أوديته وسفوحه مثلما التمر بالبصرة! ولا يزرع راشد ما ينافس بصل وطماطم تركيا وإيران! تجارة تغزو تحت قصف القرى والمعابر من قبل الجارين، وتحت عيون وآذان حماية الأمريكان المفترضة!

سألت مسؤولاً بصرياً، لا يُزايَد على شعيته ولا تحزبه الديني: مدى صحة التدخل الإيراني بشؤون المحافظة؟ قال أُلخص المشهد بما أخبرني به وزير الداخلية: «الأدلة دامغة»! ثم قال: «تحت يدي من عبث إيراني ما يندى له الجبين»! وأمام الكاميرات أشار ضباط عراقيون إلى مشاجب عظيمة من الأسلحة، وإلى جهة الشرق مصدرها. وترى بعد الضحايا والأخطار، في عملية أمن البصرة، تجري محاولات إطلاق سراح المتورطين بالقتل مقابل رِشىً هائلة، لتسريبهم إلى الضفة الإيرانية!

لا تساوي العاطفة تجاه المذهب من الجهة الإيرانية، والقومية من الجهة التركية مع التركمان، خارج حدودهما ومصالحهما، «عفطة عنز». قالها الإمام علي بن أبي طالب (اغتيل 40هـ) رخصاً بالدنيا كلها، ولكم تخيل تفاهة ورخص عفطة العنز. ولساسة الدولتين الحق بذلك، فهم ذروة في الوطنية لدولتيهما! يسعون إلى خيرهما، وليكن على حساب مَنْ يكن! أقول: أين حرص الزعامات التي تتعامل بسلوك «ألق دَلْوكَ في الدِّلاءِ»! مِنْ حرص فقهاء إيران وأفندية تركيا على بلديهما وهويتهما، والعراق يراد له أن يكون بَبَيْتِ الْعَنكَبُوتِ لا وطناً وجنةً للجميع!

إيران ذات مراكز متعددة ومؤسسات متداخلة، فلربما ما وعد به المرشد رئيس وزراء العراق، لا يلتزمه رئيس الحرس الثوري، ولا رئيس إطلاعات. بل يمكن لشخصية، مثل رئيس فيلق القدس، قاسم سليماني، نسف ما يُتفق عليه غداة في العشية. هناك أخبار مرعبة، ترد من الجنوب العراقي، إزاء هذا الرجل وفيلقه! وبالجملة عند المصلحة السياسية، قد لا يتعدى شيعة العراق لدى إيران ما شاع فيها بخصوص المذهبين: «شيعي بغداد سُنّي أسْت.. سُنّي بغداد كافر أست»، وحسب أرسطو، يصبح العراقيون كفاراً كافة! وتجهد تركيا، من جانبها، بقيادتها العلمانية أو الإسلامية، إفراغ الرافدين من حقهما بالماء! لا لوم على طهران ولا أنقرة، ولا أي عاصمة، كبرت أم صغرت، تريد اختراق العراق بالسبيل التي تراها، باجتياح سري أو معاهدة، لأنها تتعامل بمصالح أوطان لا تناحر أعوان.

زار الرئيس الإيراني بغداد، وزارها رئيس وزراء تركيا، وهما الأعلى مقاماً في بلديهما، بعد مرشد ورئيس، وتحدثا خيراً عن عاطفة جوار، الأول يساعد في الأمن والثاني يفسح مجالاً للماء، الذي تعاملت به دولته بما يخالف آلاف السنين من الشراكة، ولدى الطرفين هاجسهما: مجاهدو خلق، وحزب العمال الكوردستاني، وأرى عدم التفريط بهما بسهولة فهما مصدرا ضغط لمواجهة دواب الجارين، أقولها مع الرغبة الجامحة بفتح القلوب حتى «السابع جار»، فكيف بالجار الجنب! إلا أنه منطق السياسة المتخابثة، والعراق تركته الدكتاتورية الرعناء والاحتلال بما يُضرب ويُقاس: «إنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ»، لا يدفع حراً ولا يرد برداً!

أحاول استفزاز النخوات في الصدور، بتائية الوجيه النجفي محمد جواد الشبيبي (ت 1944): «أرثي لحاضرهم فأحمل بؤسه.. والهم أحمله لجيل آتٍ»! الأجيال الآتية آملة بوطن يصونها لا َبَيْتِ عَنكَبُوتٍ! تَتقايَض طهران وواشنطن بأمنه، وتمتلك أنقرة أسباب عطشه وسقايته!

[email protected]