ثورة عبد الناصر في القرن الواحد والعشرين

TT

تدخل ثورة 23 يوليو 1952 بعد أيام عامها الذي تكمل في نهايته نصف قرن من الزمان، وهي تنفرد بين جميع الحركات العسكرية التي حدثت في المنطقة، بأن تاريخ انتصارها ما زال هو اليوم القومي لمصر. وما زال نظامها قائماً رغم المحاولات المستمرة لاسقاطه بعدوان خارجي مسلح عامي 1956 و1967.

وهذه محاولة للنظر في المعالم التي قامت عليها هذه الثورة ودفعت بها إلى الثبات والاستقرار.

أولاً.. قامت ثورة 23 يوليو بجيل جديد من الضباط الأحرار الشبان بقيادة جمال عبد الناصر. وكان ذلك أمراً جديداً في عالم الانقلابات العسكرية التي كان يقوم بها عادة قادة الجيوش أو أصحاب الرتب الكبيرة من الجنرالات مما وفر لهم قدراً كبيراً من الجرأة والحيوية.

ثانياً.. كان تشكيل الضباط الأحرار ذا طبيعة خاصة لا تنفرد باتجاه معين ولا تنتمي لحزب سياسي واحد. فقد حرص جمال عبد الناصر على أن يكون الضباط الأحرار من مختلف الاتجاهات السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. يشكلون جبهة وطنية عسكرية. وكان هذا سبباً في عدم تربص اتجاه أو حزب سياسي بالثورة للانقضاض عليها لأن الجميع كانوا محتشدين في اطارها.

ثالثاً.. أسفرت الثورة عن توجهها الاجتماعي وحسها الشعبي مبكراً عندما أصدرت قانون تحديد الملكية يوم 9 سبتمبر (ايلول) عام 1952، أي بعد أقل من خمسين يوماً على نجاح الحركة، وهو ما أكسبها تأييداً شعبياً جارفاً من ملايين الفلاحين الذين كانوا يعيشون حياة تنضح بالمرارة والمعاناة، وهو ما خلق أساساً شعبياً للحركة.

رابعاً.. التزام الحركة بفترة انتقال محددة هي ثلاث سنوات يقوم بعدها نظام جديد في مصر بعد اتخاذ قرار حل الأحزاب والغاء دستور عام 1923 بعد ستة شهور من قيام الحركة في يناير (كانون الثاني) عام 1953 عندما اكتشفت أن بعض رجال الأحزاب القديمة بدأوا يتجمعون لاتخاذ موقف مضاد للثورة ومصر ما زالت محتلة بالجنود البريطانيين في منطقة قناة السويس.. وقد تحققت خلال هذه السنوات الثلاث انجازات دعمت موقف الحركة وجعلت منها ثورة تغير طبيعة الحياة في مصر، فقد أعلنت الغاء النظام الملكي وقيام الجمهورية في يونيو (حزيران) عام 1953، وتم توقيع اتفاقية الجلاء عام 1954 بعد أكثر من سبعين عاماً من الاحتلال، وأمم جمال عبد الناصر قناة السويس في 26 يوليو (تموز) عام 1956، الأمر الذي كان حدثاً عالمياً مدوياً رحبت به شعوب الدول النامية واندحر العدوان الثلاثي في أكتوبر (تشرين الاول) عام 1956 الذي قامت به انجلترا وفرنسا واسرائيل نتيجة ظروف متعددة يأتي في مقدمتها رفض الثورة لقبول الانذار واصرارها على مقاومة العدوان.

خامساً.. ظهر التوجه القومي للثورة مبكراً في مساعدتها لحركات التحرر الوطني العربية مثل ثورة الجزائر. وتدعم هذا التوجه القومي بعد أن وقف العرب معها في عدوان 1956 وأعلنت إذاعة دمشق وعمان (هنا القاهرة) بعد ضرب محطات الارسال في أبوزعبل وحطم الشعب السوري أنابيب النفط التي كانت تحمل نفط الشركة البريطانية من العراق إلى البحر المتوسط. وأدى إلى اعلان قيام الجمهورية العربية المتحدة بعد وحدة مصر وسورية في فبراير (شباط) عام 1958. وقد أثمر هذا التوجه القومي دعماً لكيان الثورة. كما فتح صفحة جديدة في مجال التضامن العربي.

سادساً.. تميزت ثورة 23 يوليو بعدم الجمود عند موقف واحد في سياستها الداخلية. فهي بعد تشكيل (هيئة التحرير) اثناء فترة الانتقال اختارت (الاتحاد القومي) الذي قامت على أساسه أول انتخابات في مصر عام 1957 ثم تبين عدم مواكبته للتطور فتشكل (الاتحاد الاشتراكي) عام 1962 بعد قرارات التأميم في يوليو 1961. ويعتبر هذا دليلاً على المرونة السياسية البعيدة عن الجمود. ثم تحولت بعد ذلك إلى المنابر ثم التعددية الحزبية التي استقرت في عهد محمد حسني مبارك.

سابعاً.. لم تجمد سياسة الثورة الخارجية في مواجهة الاستعمار بعد رفض أمريكا لامدادها بالسلاح وسحب عرضها في بناء السد العالي، بل شاركت في مؤتمر باندونغ (اندونيسيا) عام 1955 ووقعت صفقة الأسلحة التشيكية عام 1955 التي اعتبرت نقطة تحول كسرت احتكار السلاح، ودعت إلى عقد أول مؤتمر لتضامن الشعوب الأفريقية الآسيوية في القاهرة خلال ديسمبر (كانون الاول) عام 1958، كما قام جمال عبد الناصر بدور رائد مع تيتو (يوغوسلافيا) ونهرو (الهند) في تشكيل حركة عدم الانحياز وقيادتها مما جعل مصر في عهد ثورة يوليو تلعب دوراً له وزن عالمي.

وأخيراً ظهر ثبات ثورة 23 يوليو عندما غاب قائدها جمال عبد الناصر، وسيناء المحتلة بالقوات الاسرائيلية. ولكن ذلك لم يؤد إلى انهيار النظام كما استهدف الاسرائيليون. فقد حمل أنور السادات أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة المسؤولية بعد انتخابه رئيساً للجمهورية وقيامه بحرب أكتوبر عام 1973 التي حققت فيها القوات المسلحة المصرية انجازا تاريخياً باقتحام القناة خلال 6 ساعات واحتلال خط بارليف. وعندما اغتيل أنور السادات انتخب محمد حسني مبارك رئيساً للجمهورية في أكتوبر عام 1981 وخلال فترة حكمه أرسى دعائم الديمقراطية التي أثبتت أن ثورة 23 يوليو تتطور مع العصر وأنها أصبحت نظاماً وطنياً مستقراً في مصر يتناسب مع القرن الواحد والعشرين.