تمركز «حزب الله» في تلال صنين أعقبه وصول مقاتلين إيرانيين إلى الجنوب

TT

ان جِلد اللبنانيين صار سميكاً جداً كي لا نستعمل كلمة «غليظاً»، ونرجو ان يكون جلد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي سميكاً هو الآخر. امامه تقريباً شهران ليختبر ما تنويه دمشق تجاه اقامة علاقات ديبلوماسية مع لبنان، اذ وعد ساركوزي بأن يزور دمشق يوم الثامن من شهر ايلول (سبتمبر) المقبل، ونأمل ان يضع في برنامج زيارته ان يمر موكبه من امام مبنى «سفارة لبنان» في دمشق، وان يرى العلم اللبناني مرفوعاً فوقها، او ان يكون السفير اللبناني آنذاك مدعواً مع بقية السفراء الى العشاء الرسمي، الذي سيقيمه الرئيس السوري بشار الاسد لضيفه الفرنسي.

هللت فرنسا، وجاء ذلك في البيان المشترك الفرنسي ـ السوري لوعد الرئيس السوري فتح سفارة سورية في لبنان، وهلل اللبنانيون وعلى رأسهم الرئيس ميشال سليمان لهذا الوعد وكأنه وعد يقطع للمرة الاولى، مع معرفة الجميع المسبقة بأن سوريا ستقول لساركوزي لاحقاً، ان الامر معقود على لبنان. فقد قال الأسد في مؤتمره الصحفي الاول مع الرئيس اللبناني في باريس: «اذا كان لبنان يريد علاقات ديبلوماسية مع سوريا، فهي كذلك». ولأن سوريا اعتادت على تحويل الطرقات المستقيمة الى طرقات ملتوية، والوعود الى شروط مشروطة، نلاحظ ان الرئيس السوري وعد الرئيس الفرنسي بـ«البحث الجدي مع اللبنانيين» في موضوع التبادل الديبلوماسي وفتح سفارة. بعدها قال السوريون، انهم سيبحثون اولاً في مصير المجلس الاعلى السوري ـ اللبناني، وبمعاهدة الاخوة والصداقة قبل «ان نبدأ الحديث حول السفارات». بمعنى، انهم اذا ارادوا فتح سفارة فانها ستكون على شروطهم.

والمعروف ان اكثر اللبنانيين غير راضين عن هذه المعاهدات، او عن بنود المجلس الاعلى، ويعتبرونها، حسب القانون الدولي، ملغية اذ وُقعت بين دولة محتلة ودولة تحت الاحتلال.

اذن، كل ما اعطاه الاسد لساركوزي، وعد مشروط لفتح السفارة، أما الموضوع الاهم اي ترسيم الحدود بين سوريا ولبنان، حيث لا تزال سوريا تحتل على طول الحدود اللبنانية ما مساحته 450 كلم مربعاً، والمتعلق بمزارع شبعا وتهريب السلاح، فلم يؤتَ على ذكره مع الفرنسيين.

ان رفض سوريا فتح سفارة لها في لبنان واقامة علاقات ديبلوماسية، يعتبره كثير من اللبنانيين اصراراً على رغبتها في الابقاء على قبضة مستحكمة على لبنان وعلى سياسته الدفاعية والخارجية، وبالاخص على اقتصاده.

في لقاءات باريس، حصلت الكثير من الامور التي «استفزت» الكثير من اللبنانيين، في وقت تحققت فيها لسوريا «حكومة الوحدة الوطنية». اذ ما كان بالأمر اللائق ان يستقبل الرئيس السوري في جناحه الرئيس اللبناني وعلى يساره الوزير اللبناني السابق ميشال سماحه، فليس ذلك من مصلحة سماحه الوطنية، واذا كان يملك شركة علاقات عامة، قامت بتنظيم زيارة الاسد، فذلك لا يبرر ان يكون موجوداً اثناء الاستقبال، الا اذا كان القصد توجيه رسالة الى كل اللبنانيين.

بعد ذلك الاجتماع ومع خروج الرئيسين للقاء الصحافيين سئل الاسد عما اذا كان رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيوره سيرافق الرئيس سليمان الى دمشق. وهنا، رد سليمان قائلاً: «ان الدعوة موجهة لرئيس الجمهورية». لم نفهم سبب الاستعجال في الرد، والسؤال كان موجهاً للرئيس السوري الذي كان قال في اليوم السابق: «ان ابواب سوريا مفتوحة لكن بعض اللبنانيين يعتقدونها مغلقة».

الاكثر اثارة في ما يتعلق بالشأن اللبناني، كان تصرف الرئيس السوري في المؤتمر الصحافي الذي شارك فيه مع الرئيس الفرنسي ساركوزي وأمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني والرئيس اللبناني سليمان، اذ تكلم وكأنه رئيس سوريا ولبنان معاً، تحدث عن انتخاب رئيس جمهورية في لبنان، وتشكيل حكومة، وتوقع صدور بيان الوزارة ليبدأ الحوار الوطني. في هذه الاثناء كانت ردود فعل الرئيس اللبناني، سعادة بادية على وجهه.

الأمر الثاني اللافت للانتباه، كانت انحناءة وزير الخارجية اللبناني فوزي صلوخ وهو يصافح الرئيس السوري، اذ احتاج صلوخ بعدها لثوان حتى يجلّس شكله!

لم تخل زيارة الرئيس السوري الى باريس من تسويق مواقف للداخل السوري، كخروجه من القاعة عندما ألقى رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود اولمرت كلمته في مؤتمر «الاتحاد من اجل المتوسط"»، او كأخفاء وجهه بيده حتى لا يراه اولمرت، وهما يعبران قاعة واحدة. من المؤكد ان مغادرته القاعة كانت محّضرة ومتفقاً عليها مع الاطراف المعنية (باريس وتل ابيب) خصوصاً ان الوفد السوري كان دقيقاً جداً اثناء اعداده المراسم البروتوكولية، الى درجة الاتفاق على ان يدخل الاسد واولمرت قاعة الاجتماع من بابين مختلفين كي لا يلتقيا صدفة، لكن، لما عبرا قاعة واحدة صدفة خبأ الاسد وجهه بيده!

اثناء وجود الاسد وسليمان في باريس، تسربت معلومات عن وصول مقاتلين ايرانيين للانضمام الى مواقع «حزب الله» في الجنوب اللبناني، بعد المعلومات المؤكدة عن تمركز عناصر من «حزب الله» على تلال جبل صنين، وقد اكدت مديرية المخابرات في الجيش اللبناني في وثيقة رسمية تعرض شباب لبنانيين لاعتداء من عناصر مسلحة من «حزب الله» وتوقيفهم والتحقيق معهم، في 22 حزيران (يونيو) الماضي في صنين.

يجري هذا في وقت كانت الدولة تنشغل بالاستعدادات لاستقبال خمسة اسرى لبنانيين وجثامين حوالي مائتي فلسطيني، وقد احتجت المنظمات الفلسطينية على صفقة «حزب الله» واسرائيل لأن طموح كل فلسطيني حي او شهيد ان يدفن في ارضه فلسطين وليس في مخيمات اللاجئين. لقد نزع الحزب عن هذه الجثامين كل حرارة الانتماء لفلسطين، اذ اعد لهم نعوشاً وغطاها بعلمه. وفي الاستعداد لـ«الاحتفالات»، التي اقيمت وما تلاها، صار لبنان كأنه منظمة وليس دولة، وصار كل اركان الدولة يلبون رغبات «حزب الله» في المجيء الى المطار لاستقبال سمير القنطار ورفاقه، في حين يتصرف امين عام الحزب وكأنه «الاخ الاكبر»، لا يظهر على الملأ، ثم ماذا ستفعل الدولة العلّية عندما تتحرر مزارع شبعا؟

ربما يعرف «حزب الله»، ان ورقة سلاحه تُبحث على طاولة المفاوضات السورية ـ الاسرائيلية، وقد يكون مطمئناً اذا لم تسترد سوريا الجولان كله فانها لن تضحي بسلاح الحزب. لكنه يعرف ايضاً ان مسؤولاً امنياً سورياً ابلغ اخيراً في اسطنبول مسؤولين امنيين اميركيين معلومات عن نشاطات الحزب وقدراته العسكرية، وابلغهم ايضاً معلومات عن «القاعدة» وعن «جيش المهدي»، لأن واشنطن اوضحت لدمشق انها قبل ان «ترعى» عملية السلام الاسرائيلي ـ السوري تريد تعاوناً امنياً جدياً من سوريا يتعلق بالحزب والعراق.

قال لي احد الاصدقاء: «ان النظام السوري متعهد أمن في المنطقة. اذا ضايقته احدى الدول يُخّرب الوضع عندها، واذا اراد الاتفاق مع احدى الدول فانه يبيعها امناً». ويبدو انه يريد ان يثبت ان الأمن في لبنان بين يديه، فقد ذكرت انباء عن اخلاء «فتح الانتفاضة» قاعدتها العسكرية في منطقة راشيا في الثامن من الشهر الجاري، وانتشر هناك الجيش اللبناني، كما غادر «مقاتلو» الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ القيادة العامة مراكزهم في قوسايا التي تطل على ثكنتي الجيش في رياق وأبلح، كما غادروا منطقة الناعمة.

ان صعود «حزب الله» الى جبل صنين ليس للتحضر لمواجهة عمل عسكري اسرائيلي، ففي الوقت الذي تتجه فيه سوريا واسرائيل الى اتفاقية سلام فان الابواب تُغلق في وجه الحزب. ويجري ضباط من الحزب اجتماعات متتالية مع ضباط من «الحرس الثوري» الايراني في مقر السفارة الايرانية في بيروت للبحث في الخطوات الواجب اتباعها، لاسيما ان البساط يُسحب من تحت قدميه، رغم تصريحات مسؤوله العسكري في الجنوب نبيل القاووق من ان الحزب بعد تحرير الاسرى، صار اقوى سياسياً واقدر عسكرياً.

ان البروباغندا الاعلامية للحزب قوية جداً، لكن الدهاء السوري أقوى.

سيبقى الحزب ورقة في يد سوريا رغم كل الصواريخ التي يملكها، اذ هل سيطلقها على دمشق؟ ان لبنان كله سيبقى ورقة على طاولة المفاوضات السورية ـ الاسرائيلية.

المحك القريب سيكون في البيان الوزاري، اذا لم تجر عرقلة ما لاقراره، فان ذلك يعني ان المفاوضات بين اسرائيل وسوريا تسير حسب الرياح السورية ونحو استعادة نفوذها في لبنان، وقد يصبح تبادل العلاقات الديبلوماسية بين لبنان وسوريا مرتبطاً ايضاً بتلك المفاوضات. لذلك قد ينقذ ساركوزي من الاحراج في الذهاب الى سوريا، ان الضوء سيكون مسلطاً على المسار الاسرائيلي ـ السوري ويريد ساركوزي استغلاله، فتنطفئ بذلك شعلة فتح السفارات بين بيروت ودمشق.