الغرب وانهيار الفرضيات: فلسفة التغير والتغيير ستبقى ما بقي الإنسان!

TT

إن الفلسفة ـ في جوهرها العميق ـ لا تؤمن بالمطلق، ولا تقطع الشك باليقين، بل إنها تنزع إلى فتح باب التأمل والتساؤل، لأن من صميم مهماتها خلق التحليل، وتوسيع الإدراك والأفق، رغم انها ـ كما يعتقد هيغل ـ لا تأتي بجديد، إلا أنها أساس كل طرح فكري يسعى إلى تحليل وتفسير المشكلات الكونية والإنسانية انطلاقا من المعطيات الماثلة.

وهذا ما فعله كبار الفلاسفة منذ عهد سقراط مرورا بابن رشد وانتهاء بريتشارد روتي وزكي نجيب محمود. وعلى الرغم من تعدد المدارس وتنوع المناهج وتلون التراث، تبقى الفلسفة ميدانا خصبا وحيا لتوليد الفكر وتعتيق الذهن، وبصرف النظر عن استنتاجاتها من حيث الصحة او الخطأ، فإن نوعية الطرح ومنهجه العلمي عادة ما يعطيانها ذاك التوهج والبريق.

ولعل من يقرأ التاريخ، يجد فيه احتشاد التجربة والقدرة على قراءة المستقبل، فلا ثمة ثبات مطلق طالما كان الحديث يدور حول الإنسان وحياته المعاشة. وكان المفكر هيغل، قد تنبأ بنهاية التاريخ في القرن التاسع عشر بقيام الدولة القومية البروسية، وجاء بعده ماركس ليعلن ان الشيوعية هي بداية التاريخ الحقيقي، وستتلاشى الرأسمالية، ولكن ها نحن اليوم نعيش في عصر يقول لنا ان التاريخ لا يمكن أن يتوقف، طالما ان علم الطبيعة الحديث ليست له نهاية، ولذا فقد انهارت تلك الفرضيات، لاسيما وقد طرح في القرن الماضي عدد من النظريات تناولت إشكالية حوار الحضارات، ومنها آراء المفكرين هنتغتون وفوكوياما إزاء السياسة الأميركية، وترويجهما للنموذج الأميركي الذي باعتقادهما سيبقى مسيطرا ومهيمنا ومنتصرا ومؤثرا في النظام العالمي بأسره.

غير ان الإصرار على صحة مثل تلك النظريات، يكرس مفهوم القطيعة، ويُعيد مفردات قديمة في التنازع تتمثل في الكراهية والحقد والرفض، مع انه حين الحديث حول تشكل الحضارات وتزاوجها، يقودنا إلى الإشادة بالحضارة الإسلامية، حيث تثاقفت مع الحضارات الكائنة آنذاك، بأسلوب تعايشي وتسامحي، فحافظت تلك الحضارات على هويتها مع استفادتها الجمة مما احتوته الحضارة الإسلامية من فكر وتجارب ومفاهيم، ولعل هذا يفسر وعن كثب تميز الحضارة الإسلامية حينذاك، وان مبدعيها لم يقتصروا على العرب فقط.  بيد انه يتبادر سؤال هنا، حول الأسباب الرئيسية وراء ضعف تواصلنا مع الغرب في العقود الماضية، والتي ساهمت في خفت توهج التبادل الثقافي والحوار الإنساني؟! الحقيقة تتمثل في جملة من الأحداث والمسببات التي أدت إلى نوع من العزلة والتقوقع، حيث آثر البعض ذلك للحفاظ على الهوية وكرامة الذات، لا سيما بعدما أصبحت لغة القوة والسيطرة والهيمنة تسبح في فضاء تلك الفترة، فضلا عن نظرة الاحتقار والازدراء من الغرب إزاء الحضارات والثقافات الأخرى. ولعل ما ساهم في تكريس هذا المناخ تلك العوامل التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية، والدخول في مرحلة الاستعمار، واستيلاء الحلفاء على البلدان، وسقوط الدولة العثمانية، وظهور الاتحاد السوفيتي كثورة مناهضة للغرب (الفكر الشيوعي مقابل الفكر الرأسمالي).

غير ان الخطأ الجسيم، كان في تبني بعض الدول العربية الفكر الشيوعي الذي كان فيه سبيل للخروج من الإحباط والمأساة اللذين عاشتهما بعد انهيار الخلافة العثمانية، وكانت النتائج فعلا كارثية على تلك المجتمعات، الا ان الفكر الشيوعي تلاشى تقريبا بسقوط الاتحاد السوفيتي وظهور النظام العالمي الجديد الأحادي القطب بزعامة الولايات المتحدة الأميركية (نظريات هنتغتون وفوكوياما). ورغم اهتمامها وحلفائها بالمصالح والمنافع، فإنه سرعان ما لاحت في الأفق اضاءات وأصوات تنادي بالحوار والتواصل الثقافي والتعاون بين الشعوب لإثراء الحضارة الإنسانية، ومد الجسور واحترام الهويات لا سيما ونحن في عصر العولمة. ولعل دعوة العاهل السعودي إلى مؤتمر حوار الأديان في مدريد خطوة مهمة للتأكيد على أهمية التقارب والتعايش السلمي بين الثقافات والأديان. ورغم ان الإعلام الغربي ما زال يكرس قضية الصراع الحضاري بعد احداث11 (سبتمبر (ايلول، كما أن أسامة بن لادن ما زال يرسخ نهجا مشابها، وأنها حرب بين الإسلام والغرب، فإن دور المستنيرين في العالمين الإسلامي والغربي، هو المطالبة والحث على التقارب والحوار والانفتاح واحترام الرأي الآخر، وتكريس التلاقح الثقافي.

إننا معنيون أكثر من أي وقت مضى ب تشكيل نسيج حي لثقافة الإنسانية بفكرها الفعال والمتحرر من مفردات الهيمنة والسيطرة والقادر على هدم خطابات التسييد.

نعم، ان التواصل الحضاري ضروري ومُلح في وقتنا الراهن، وبات يستدعي صياغة أفكار وآليات عبر لقاءات حوارية دائمة ومبادرات متواصلة، فالحضارات لا تتلاشى إذا ما تلاقحت. اما الخشية من فقدان الهوية والخوف من الغزو الثقافي، فهو ضعف فكري وهشاشة في تركيبة المجتمع، فهذه اليابان استفادت من نقل التكنولوجيا الغربية وظلت في ذات الوقت متمسكة بإرثها الحضاري.

إن سقوط فرضية ما، يُعد أمرا مقبولا في مجال البحث العلمي، وفشلها لا يعني ـ كما يقول المثل الانجليزي «نهاية العالم»، بقدر ما أنها محاولة بشرية ورؤية شخصية تتسم بالبحث في العلل والحفر في التراكمات، ولذا فهي تحتمل القراءات المختلفة، غير ان الكارثة في الإصرار على انها (خالية من العيوب) وان نتائجها نهائية ومطلقة. بقي ان نقول ان التاريخ مفتوح لكل الاحتمالات، وفلسفة التغير والتحول ستبقى ما بقيت الحياة، فما الحياة إلا مسرح للتعددية والاختلاف، ولن تُسدل ستارته إلا بنهاية الإنسان ذاته.

www: zuhair-alharthi.8m.com