نظرتان تتجاذبان أفريقيا: حلم الوحدة.. وتجاوز المحنة

TT

انعقد بالعاصمة الزامبية لوساكا ما وصف بآخر القمم لمنظمة الوحدة الافريقية التي ولدت قبل اربعة عقود من الزمن، وليشهد العالم في مثل هذا الوقت من العام القادم اكتمال ميلاد ما اطلق عليه «الاتحاد الافريقي» في العاصمة الجنوب افريقية جوهانسبيرج. ومع انه لا يبدو ان هناك فرقا جوهريا في المضمون فكذلك الحال لا يبدو ان هناك فرقا يذكر حتى بالنسبة للاسم، بل لعل اسم منظمة الوحدة الافريقية اوقع من الاتحاد الافريقي، فالطموح «للوحدة» اعلى درجة من التطلع الى الاتحاد.

واذا تجاوزنا الشكليات ونظرنا الى جوهر الامور فاننا سنجد ان عاما واحدا ليس كافيا لتفكيك هياكل المنظمة العريقة وانشاء الهياكل الجديدة. كما ان قيام الهياكل الجديدة يكتنفه الكثير من الصعوبات والتعقيدات، علما ان الزعيم القذافي التزم بان بلاده تتكفل من الناحية المالية بالصرف على مقتضيات اعادة التأسيس، ومع انه يشكر على هذا التبرع السخي الا ان فيه من الدلالات ما يشير إلى عجز الدول الافريقية على تحمل مثل هذه النفقات مما يظهر عجزها عن انشاء مصرف مركزي وصندوق للنقد على غرار المؤسستين الدوليتين! فضلا عن ان القذافي نفسه ظل يسدد نصيب الكثير من الدول الافريقية في مساهمتها السنوية لقاء اشتراكها في منظمة الوحدة الافريقية، وهكذا يبدو انشاء المؤسسات المالية ورفع الحواجز الجمركية وتوحيد النقد الى آخره مسائل بعيدة المنال لا تقوم على ارض الواقع لمجرد اطلاق المسميات او خلق الهياكل واختيار المواقع.

وبالنسبة لاختيار المواقع، فقد بدأت المنافسات والمساومات حول اماكن قيام هذه المؤسسات، وترجح الاحتمالات حظوظ ليبيا في احتضان مقر البرلمان الافريقي، لكن احد المشاركين في القمة الاخيرة قال لوكالة رويترز: كيف يمكن ان يكون مقره في ليبيا التي لا يوجد بها حتى برلمان خاص بها؟ سنبدو مثيرين للاستهزاء.. وما يقال عن ليبيا ينطبق على غالبية الدول الافريقية التي لا توجد بها برلمانات، وإن وجدت فهي برلمانات للزينة لا تمثل الشعوب بقدر ما تمثل تسلط قياداتها عليها. ولا شك ان خير شاهد على ما نقول هو أننا لم نسمع او نقرأ ان برلماناً افريقياً بعينه قد اجتمع وأخذ رأيه في دفن منظمة الوحدة الافريقية وقيام الاتحاد الافريقي عوضا عنها، بل كلها اجراءات فوقية تمت بمبادرة من العقيد القذافي وموافقات من قادة يُشك في ان معظمهم شاور حتى مجلس وزرائه، ناهيك من برلمانات صورية او قواعد شعبية، واذا افترضنا انه قدر لهذا البرلمان الافريقي ان يقوم حتى بهذه الصورة الشائنة، فهناك خلافات كبيرة حول نسب التمثيل فيه بين قائل ان تكون نسبة التمثيل فيه حسب الوزن العددي لشعوب الدول الافريقية وبين راغب في ان يكون التمثيل متساويا بين الدول وبين هؤلاء وأولئك من يرى انتخاب الاعضاء مباشرة من قبل شعوبهم على غرار النهج الاوروبي الذي استهوى القادة الافارقة! وبالرغم من ان القذافي هو مهندس الاتحاد الافريقي الا انه اخذ يدعو الى مراجعة الاسس والهياكل بزعم انها «متأثرة اكثر مما ينبغي بالافكار الغربية عن الدول القومية» ولعل في مقولته هذه ما يشي بانه اخذ مبكرا يدرك انه دفع باتجاه الاتحاد بسرعة تماثل اندفاعاته السابقة تجاه الوحدة العربية! ولا شك ان بعض القادة الافارقة قبل ان يبرحوا قاعة اجتماعات القمة الاخيرة اخذوا يرسلون التصريحات الناقدة لهذا الاتحاد الوليد، فقد قال الرئيس الكيني دانيال اراب موي: من غير المجدي ان نتحدث عن اتحاد افريقي من دون حل معظم الصراعات، وان افريقيا مجزأة الآن اكثر مما كانت عند انشاء منظمة الوحدة الافريقية، وعلينا حل هذه القضايا بدلا من اضاعة وقتنا في هذا الاتحاد. وعزز كوفي انان الامين العام لمنظمة الامم المتحدة ما قاله الرئيس الكيني بتحذيره من ان الصراعات تمثل تهديدا اكبر لمشروع الاتحاد الافريقي. وسخر وزير خارجية سابق للنيجر قائلا: من السهل على ليبيا الغنية بالنفط ان تتسلى بافكار جديدة عن اساليب الحكم، لكن اي رئيس دولة يعود اليوم الى بلده ليجد العمال يرفعون لافتات تطالب بدفع اجورهم المتأخرة لا يملك ذلك الترف! ونبقى في الهياكل والمؤسسات الجديدة، ومنها تشكيل محكمة العدل الافريقية والمجلس الرئاسي ونتساءل عن استقلالية القضاء الافريقي على وجه الاجمال، ونحسب ان القضاء ليس مستقلا في معظم البلدان، وان انشاء هذه المحكمة لا ندري كيف سيتم؟ وبأية صلاحيات؟ وكيف سيُجلب المتهمون لها؟ علما ان المتهمين هم بالأساس الحكام انفسهم! اغلب الظن انها لن تنشأ ابدا وسيكون مصيرها مثل محكمة العدل العربية التي تقرر انشاؤها منذ عقود ولم تر النور حتى الآن! وبالمناسبة فإن محكمة العدل الافريقية ليست فكرة جديدة صاحبت فكرة انشاء الاتحاد الافريقي بل انها فكرة قديمة اجيزت في قمة لاغوس بنيجيريا عام 1986 ضمن توصيات عديدة، اغلبها جرى تبنيه من جديد في قمة لوساكا والقمتين السابقتين المخصصتين في ليبيا لاقرار مشروع الاتحاد الافريقي، وفي هذا المشهد اكبر دلالة على ان المسميات والقرارات لا تعني شيئا إن لم تكن مرتبطة بالواقع المعيش وتتوافر لها امكانات التطبيق.

معلوم ان القارة الافريقية تعج بالصراعات والحروب الاهلية وما لم تضع حدا لهذه الحروب فلا مجال للحديث عن الاستقرار اولا ومن ثم التفكير في الاتحاد او الوحدة، وهذه مسألة بديهية والفقر والامراض والتخلف كله عائد بالاساس لتلك الحروب المستعرة، سواء بالنسبة للحدود او الى الاوطان نفسها ولا سبيل الى مجرد الحلم بالوحدة ما لم يتم القضاء على ذلك الثالوث اللعين.

ان القارة ليست بحاجة الى الشعارات الرنانة والاحلام بعيدة المنال او البكاء على الاطلال والاتكال على مطالبة المستعمرين السابقين بدفع تعويضات لقاء ما سلبوا ونهبوا وخربوا، اذ ليس بوسعنا ان نرغمهم على دفع تعويضات ونحن نحاول ان نستجديهم المعونات الانسانية ونتوسل اليهم شطب ديوننا او التخفيف من عبء فوائدها، وهم في المقابل يطالبون قادتنا بالشفافية في التعامل مع المال العام واحترام حقوق الانسان وتطبيق الاصلاحات المفضية الى التنمية. وهي كلها مطالب لا غنى عنها اذا اردنا بالفعل لقارتنا ان تنهض من كبوتها.

وللاسف الشديد، ان الكثير من قادة افريقيا يحسبون بحكم شغفهم بالحكم والتسلط ان الديمقراطية هي ترف غربي ومنهاج لا يلائم طبيعة القارة وموروثاتها وما لم تتغير هذه العقلية وينتشر الوعي وتكون الكلمة للشعوب فلا سبيل لنهضة القارة ناهيك من وحدتها. ان الخطوة الاولى في طريق الوحدة الطويل تبدأ من انتهاج الديمقراطية واقتناع الشعوب بالوحدة والعمل لها ولا يمكن لوحدة تنشأ بهذه الفوقية المتباينة ان تصمد او تحقق املا من آمال شعوب القارة.

ومن حسن حظ القارة ان فيها زعماء يفكرون بموضوعية وواقعية ولدولهم اوزان مقدرة، مثل جنوب افريقيا ونيجيريا والسنغال وغيرها فهم تواصوا على مشروع طموح، من شأنه القضاء على المرض والحروب والفقر حتى عام 2015، وهو يتطلب توفير 66 مليار دولار من المأمول الحصول عليها، لكن العبرة في ان خمسة عشر عاما ليست بالزمن الطويل للقضاء على هذا الثالوث اللعين انما تكمن في انه اذا كان كل هذا الزمن لا يكفي للتخلص من هذا الثالوث، فكم من السنين بعدها تحتاج القارة لكي تصل الى اعتاب سلم الاتحاد الافريقي الذي يتخيل البعض ان يرى النور باكتمال هياكله في العام القادم؟! ان رؤساء جنوب افريقيا ونيجيريا والجزائر عقدوا العزم على التوجه الى ايطاليا في الايام القليلة القادمة للالتقاء مع زعماء الدول الغنية الثماني اثناء عقد مؤتمرهم في جنوا، طالبين مساعدتهم على تبني المشروع الافريقي، ومجددين رجاء القارة شطب ديونها البالغة 340 مليارا من الدولارات. والمأمول ان ينجح الزعماء الثلاثة في اقناع الاقطاب بالدفع باتجاه انتشال القارة من وهدتها، وهذا غاية ما تتمناه القارة عكس الشعارات التي يرفعها البعض لمناطحة الكبار والزامهم بدفع التعويضات او تحذيرهم بالابتعاد عن القارة.. نريدهم ان يقتربوا اكثر فأكثر تحقيقا لمبدأ «العالم قرية» فابتعادهم لا يفيدنا بقدر ما يضرنا ونحتاج الى صداقتهم لا عداوتهم.