رياح شمال المتوسط

TT

سواء أدرج التاريخ مشروع الرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي، (الاتحاد من أجل المتوسط)، في خانة الطموح الشخصي أو خانة إعادة إحياء مسار برشلونة أو حتى خانة ترضية تركيا عن معارضته عضويتها الكاملة في الاتحاد الاوروبي، تبقى العبرة الأبرز للمشروع نقله الرؤية الاوروبية لدول جنوب المتوسط وشرقه من دائرة الخطر السياسي ـ الأصولي الذي تصنفها فيه (نظريا وعمليا) الى دائرة التعاون الاقتصادي ـ التجاري المجدي للجانبين معاً.

علاقة دول شمال حوض البحر المتوسط وجنوبه فريدة في نوعها، ويمكن تلخيصها بأنها علاقة قربٍ جغرافيٍّ.. وبعدٍ حضاريٍّ. فرغم ان الشمال الافريقي لا يفصله عن الجنوب الاوروبي سوى تسعة أميال فقط (مضيق جبل طارق)، تباعد بين القارتين فجوة حضارية واقتصادية وحتى سياسية يمكن تلمس ابعادها في هاجس عواصم دول شمال المتوسط حيال هجرة أبناء الجنوب غير الشرعية ـ وغير المرحب بها لأكثر من سبب وسبب ـ وقلقها الدائم من هشاشة الاستقرار السياسي والأمني في معظم دول الجنوب.

على هذا الصعيد، يسجل لمشروع الرئيس ساركوزي سعيه لتحقيق نقلة نوعية في علاقة شمال البحر المتوسط بجنوبه، انطلاقا من علاقة تاريخية جمعت ساحلي البحر المتوسط رغم تباين المناخات السياسية والحضارية بينها، أي العلاقة الاقتصادية. غير خافٍ علينا أن الحركة التجارية بين دول حوض المتوسط تعود إلى قرون خلت، وأن مرافئه (بيروت، الاسكندرية، قرطاجة، مرسيليا..) نسجت بين سواحله علاقة «متوسطية» منذ ما قبل اعتبار الامبراطورية الرومانية البحر المتوسط بحراً خاصاً بها (mare nostrum).

ولغاية اليوم يشكل البحر المتوسط شريانا تجاريا دوليا مهما يخوله لان يصبح منطقة تجارة حرة لدوله، فهو الممر البحري لثلث التجارة العالمية بواسطة الحاويات (المحملة للمواد المصنعة في الصين والشرق الاقصى والمتجهة الى أوروبا والساحل الشرقي للقارة الأميركية). وهذه العلاقة التجارية (التي لم تخلُ من طابع القرصنة في العصور القديمة) هي، عملياً، إحدى مسلمات «الشخصية المتوسطية» ـ إن صح التعبير ـ ومنها يمكن الانطلاق في بناء «كيان جغرافي ـ اقتصادي» لحوض البحر المتوسط، الامر الذي يمكن استشفافه من تطلع الرئيس الفرنسي الى «اتحاد من أجل المتوسط».

ولكن، المفارقة التي يتوجب على هذا الاتحاد مواجهتها تبقى في أن الحركة التجارية المزدهرة فوق سطح البحر لم تترجم بحبوحة في دول ساحليه الجنوبي والشرقي فظلت دول الجنوب، حتى الآن، «كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ.. و(الخير) فوق ظهرانيها محمول».

على سبيل المثال لا الحصر، معدل الدخل الفردي في عشر من دول جنوب المتوسط وشرقه لا يزيد على خمس مثيله في اوروبا الغربية، ولا يوازي ما كان عليه في أوروبا الغربية مطلع الخمسينات، مما يعني أن دول جنوب المتوسط وشرقه تحتاج الى قرن ونصف القرن تقريباً للحاق بمعدلات الدخل الفردي الحالي في الاتحاد الاوروبي (رغم اتجاه هذا الفارق الى التقلص). وفيما تضع الاحصاءات الرسمية معدلات البطالة في دول الساحل الجنوبي للبحر المتوسط بحدود الـ12 في المائة، فهي تتجاوز في الواقع 25 في المائة.

ولكن المفارقة اللافتة اليوم هي أن «فقر» دول الساحل الجنوبي للبحر المتوسط أصبح عاملا واعدا في تحسين وضعها الاقتصادي مع بروز ظاهرة انتقال رأس المال الاوروبي الى سوق العمالة ـ بعد ان كان يستورد العمالة الى سوقه. وفي هذا المضمار تبدو صناعة السيارات الاوروبية السباقة فبعد ان توقفت عن بناء مصانع لها في دولتي الاجور الرخيصة الاوروبيتين (اسبانيا والبرتغال) وتوجهت بعد ارتفاع الاجور فيهما نحو دول أوروبا الشرقية الارخص، بدأت تستهدف الآن دول الأجور المتدنية في أفريقيا الشمالية.

وبعد أن بدأت دول جنوب المتوسط وشرقه باستقبال استثمارات خارجية ضخمة عززتها، في الآونة الاخيرة، توظيفات الدول النفطية، تبدو فرص نجاح «الاتحاد في سبيل المتوسط» بتسريع معدلات نمو الجانب الافقر من سواحل المتوسط واعدة في حال أحسنت الدول الفقيرة توظيف الاستثمارات الموعودة بها في تطوير بناها التحتية وتحسين برامجها التعليمية وتفعيل انظمتها السياسية.

واذا تمكن الرئيس الفرنسي من عزل مشروع «الاتحاد من أجل المتوسط» عن مؤثرات النزاعات السياسية على بنيته الاقتصادية يمكن ان يسجل له تحقيقُ الخطوةِ الاولى في تحويل البحر المتوسط الى بحيرةِ سلامٍ وازدهارٍ.