شعراء وخرفان

TT

الناقد البريطاني ريتشاردز كان من الذين يعتقدون ان الشعر يؤثر بقداسة في الناس اكثر من علم الأخلاق وما ذاك إلا لأنه ـ بحسب ذلك الناقد المرجعي ـ يوسع آفاق العقل، ويفتح دروباً كانت مجهولة قبله للمعرفة، ويقوي العواطف ويطهرها بالإضافة إلى تخصيب المعاني الروحية، وتوسيع مملكة الخيال.

وللقيام بهذا الدور الاسطوري لا بد من تجربة بعرض الحياة، وطولها واتساعها، ومع ذلك فقد جاءت تيارات نقدية دعت الجميع إلى إهمال دراسة تجربة الشاعر، والاكتفاء باستنطاق الحروف والقصائد.

وككل موجة أو موضة غير مؤثرة ذهبت تلك التيارات، وعاد الأدب للاهتمام بالإنساني الذي لا يوجد الفني دونه، فنحن ومهما شطحنا لا نستطيع الخروج من جلودنا ومعارفنا ولا الهرب من الصور التي تشكلت في وعينا ولا وعينا خلال الانتقال من الطفولة إلى الكهولة مروراً بالشباب.

ان الشاعر الذي يتحرك بين قطبي العمق والتعقيد اللذين يصنعان الفن، مر قبل ذلك بالبساطة والالتقاط اليومي لمفردات الكون وألوانه وأصواته قبل ان يتثقف ويثري معرفته ويبدأ بتوظيفها في الكتابة الشعرية، ورغم محاولات البعض لإنكار تأثير تجارب الطفولة إلا انك تراها دائماً تطل برأسها من كتاباتهم نثراً وشعراً، فالراحل نزار قباني تحكمت به حكاية انتحار شقيقته بعد تجربة حب قاومتها «العائلة» التي ستتحول لاحقاً في قصائده إلى القبيلة.

والشاعر المحافظ خليل مردم الذي سبق نزار إلى المشهد الشعري السوري تحكمت به صورة «خروف العيد» فصار يتقمص شخصية الضحية في معظم ما كتب من أشعار، ومن حسن الحظ، فإن الدكتور مصطفى سويف، والد الروائية المصرية أهداف سويف، حفظ النص الذي يتحدث فيه خليل مردم عن تلك التجربة. وكان عالم النفس قد قام باجراء بحث ميداني عن أثر تجارب الماضي على الشعر، ووجه إلى عدة شعراء مجموعة اسئلة عن تلك التجارب ونشر إجاباتهم في كتابه القيم «الاسس النفسية للإبداع الفني».

يقول خليل مردم عن تجربته: شهدت مرة بدارنا جزاراً يذبح الأضاحي فكنت انظر إليه يذبح الواحدة بعد الاخرى بخفة وقساوة، والاضاحي تتخبط بدمها وتغط غطيطاً منكراً واستقرت صور ذلك المشهد في نفسي فصرت أستهجن قساوة الجزار، وأرق للضحايا، ومضى على ذلك زمن طويل ومنيت بفاجعة ما كنت أقوى معها على الرثاء، بل ما كنت أطيق ان اسمع رثاء أو اقرأه، وكنت اشعر بعد تلك الفاجعة كأنني مذبوح، وتنبهت صور الضحية في نفسي وخيل إليَّ على الدوام انني اقاسي من جرح المصيبة مثلما تقاسي».

ومن أثر تلك التجربة قال خليل مردم مجموعة ابيات لا ترقى إلى حجم نصه النثري وهي:

لحى اللّه جزاراً يتل ضحية وركبته عبء على الصدر مطبق حنا فوقها كالذئب فوق فريسة وما كل حان لو تدبرت مشفق ولم أرها تزداد الا وداعة فما باله يزداد عنفاً ويحنق وباستثناء البيت الأخير لا تساوي هذه القصيدة الكثير والسبب تقليدية الشاعر ومحدودية خياله التي جعلته يراوح في منطقة الواقع ولا يرتفع إلى الرمز، ولو فعل لأتى من تلك التجربة بالكثير، خصوصاً ان شعور الضحية والجزار يؤثر في نفسية كل مواطن عربي يعيش مسلوب الإرادة على لوائح الذبح، فإن وفره الجزار الداخلي والمحلي لم يقصر الجزارون الخارجيون في وأد طموحاته واحلامه.

ان كل صورة شعرية لها أصل واقعي، لذا تظل التجربة الانسانية بوصلة لا بد منها لفهم الشاعر، ولا تلق بالاً لمن ينصحك بتخطيها، فخلف كل قصيدة برج من البهجة أو بئر من العذاب.