كتابات للصيف.. غروميكو في وول ستريت!

TT

الذين يتابعون اخبار الأسواق المالية عن بعد، يحمدون العزة الإلهية على نعمة العقل. والذين يتابعونها من الداخل، يدركون انه لا يحمد على مكروه سوى الذي لم يلد ولم يولد. وقد نصحني «خبراء» الأسواق بأن اشتري بعض الاسهم «تأمينا لأولادك» يوم كان السهم في عز نجاحه، على اساس انه صاعد كالصاروخ ولن يتوقف.

وعندما هبط بنسبة 20% قال لي الخبراء «عليك به يا أخا العرب. فرصة لا تفوّت وهبوط لا يتكرر». وعندما بلغت نسبة الهبوط 70% قال الخبراء: «ماذا وراءك والفتيان قد ساروا». وعندما خسر 96% من قيمته، اتصل بي خبير وقال: «بشرفك. مش لقطة»؟ وكان ابو العبد يقول في هذه الحالات، «لقطة تلقطك لقط».

اعدت هذا الصيف قراءة مذكرات اندريه غروميكو، راعي الديبلوماسية السوفياتية من ستالين الى غورباتشوف. اعدت قراءتها بهدوء، محاولاً ان اعرف معنى الاحداث التي قرأت عنها او تابعتها او رافقتها. ومحاولاً ان اعرف كيف كان ينظر الوزير العابس الى الرجال الذين تعاطى معهم، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية الى نهاية الحرب الباردة. وكان غروميكو رجلاً حاداً يوحي بالامتعاض ويكثر من المشاغبة ويزيد الطين بلة في كل مكان. ويرفض الابتسام. وعندما تقرأ انه ولد في بيت لا يملك الأرض ولا العمل ولا شيء سوى القلة والفقر، تعرف لماذا نسي الابتسام! وغروميكو ليس اسم العائلة بل اسم القرية التي جاء منها. وكثيرا ما يغلب اللقب غير المهم على صاحب الاسم الاكثر اهمية بكثير. فقد سمي عمر الخيام كذلك لأن والده كان خياماً، ولم ينفع فيه انه اصبح اشهر شعراء الفارسية. وسمي البحتري كذلك لقصر قامته، وسمي درة النثر العربي القديم، «الجاحظ»، بدل ان يُبقى له الاسم الذي ولد به وهو به خليق: بن بحر بن بحر بن بحر! او أبو البحار.

كان غروميكو يخرج من لقاءاته مع المسؤولين الغربيين غاضباً عابساً ومكفهراً مثل اصدقائنا في الحزب الشيوعي اللبناني. وما ان ترك زعماء الحزب العمل الايديولوجي حتى اصبح مستحيلاً علينا ان نهدئ من ابتساماتهم وان نخفف من لذعاتهم الضاحكة. والآن عندما ارى جورج حاوي او كريم مروة اشعر ان علي ان ابتسم من بعيد لكي اتساوى مع مرحلة الخروج من الأمانة العامة للحزب. كما اشعر ان علي ان احمل معي ما احمله دائماً الى الرئيس سليم الحص: آخر نكتة! وبعد خروجه من الحكم رفع الرئيس الطيب حصتي الى نكتتين. واشترط المعاملة بالمثل.

كان الاستاذ محسن ابراهيم، زعيم «منظمة العمل الشيوعي»، الايديولوجي الاكثر حدة في الحرب. وقد مر عقدان لم اره خلالهما. ومنذ ان التقينا مجدداً قبل حوالي العامين، اصبحت اللقاءات دورية والزامية. فاذا كان اللقاء ظهراً وقد سُمعت ضحكتي على بعد كيلومترين، فالسبب قفشات محسن ولمحاته ودعاباته الحاضرة الناضرة مثل قبعات السحرة. واذا كان الوقت عشاء والضحك يسمع على مدى ثلاثة كيلومترات، فانه «ابو خالد» يفصل السياسة اللبنانية او يفسخها.

فلنعد الى غروميكو: كل مذكراته مليئة بالمدائح والاحترام لجميع الغربيين الذين قابلهم وخرج من لقاءاتهم وهو يعنفهم، ويرعبنا. لكن اجمل ما توقفت عنده في ايام الأسواق المالية والخبراء هذه، هي عندما دعي الى جولة في نيويورك على يخت العام 1946. ويقول ان مضيفه هتف فجأة: هذا هو وول ستريت! فتطلع فاذا الحي المالي أوله في المحيط وآخره في ... مقبرة.