يوم كانت للمفكر حريته

TT

رغم كل هذه الجمعيات عن حقوق الإنسان وكل الكلام عن الديمقراطيات والتشريعات، فإن القول يتردد في هذه الأيام بيننا في العالم العربي بأن حريات الفكر والنشر كانت أفضل بكثير مما هي عليه اليوم، وأن المفكر الحر كان أسلم على حياته وحريته عما هو عليه الآن. تذكرت ذلك وأنا أقرأ قضية النصولي، قلما سمع بها أحد، لكنها انفجرت في العراق في نفس الفترة التي انفجرت فيها قضية طه حسين والشعر الجاهلي في مصر، أي في العشرينات.

انتدبت وزارة المعارف العراقية أنيس نصولي من لبنان للتدريس في مدارسها عام 1924، بعد سنتين من وصوله، نشر في بغداد كتابه الشهير «الدولة الأموية في الشام» وتغنى فيه بأمجاد بني أمية وأهدى كتابه لأبناء سوريا الباسلة المتحدة، أبناء معاوية والوليد «ومن أحق بتاريخ أمية من أبناء أمية»، كما قال.

لم يدرك الكاتب أثر مثل هذه الكلمات على أبناء الشيعة في العراق الذين يعتبرون الأمويين قتلة الحسين وآل البيت رضي الله عنهم، لا سيما أنه انتقد في كتابه بعض تقاليد عزاء الحسين كاللطم والضرب بالزناجير وشج الرؤوس بالطبرة. تدفقت البرقيات والمظاهرات والوفود تطالب بإقصاء هذا الرجل. كان ساطع الحصري مسؤولا عندئذ في وزارة المعارف فطلب من المؤلف الاعتذار واصدار طبعة جديدة تحذف منها هذه الإشارات. بيد أن المشاعر الشيعية تجاوزت ذلك، فجاء الشيخ جعفر الشبيبي، المعروف بأفكاره الحرة اعتيادياً، على رأس وفد إلى ديوان الوزارة يصرخ ويستصرخ المسلمين على هذا التجاوز.

بيد أن قطاعات أخرى من المثقفين رأت غير ذلك، فساروا في مظاهرات تناصر المؤلف، وبعثوا بوفد يترأسه رجل شيعي، الاستاذ محمد حسن سلمان، يناصر الكاتب ويعارض فصله عن وظيفته. غصت الجرائد بالبرقيات والعرائض تنديداً بالمؤلف وتأييدا للمؤلف. وتطور الأمر إلى نقاش ونزاع طويلين عرف بين الجمهور بقضية النصولي.

كان العراق حديث العهد بالاستقلال وما زال رسمياً تحت الانتداب البريطاني وكان الكثير من علماء الشيعة يعتبرون النظام زائفاً لا شرعياً. أمام هذه الضغوط والمخاطر والرغبة الملحة لتوطيد وحدة وطنية، رأى المسؤولون أن الاستغناء عن خدمات المعلم اللبناني أهون الشرين، فدفعت له مستحقاته وشيع بكل احترام إلى بلده. ومع ذلك فإن بعض زملائه كالفلسطيني درويش المقدادي والسوري جلال زريق واللبناني عبد الله المشنوق، اعتبروا ذلك جناية بحق حرية الفكر فقدموا استقالاتهم فوراً احتجاجاً على فصل زميلهم المعلم، وتسلموا هم الآخرون مستحقاتهم وتركوا البلاد معززين مكرمين.

هناك حقيقتان مهمتان تسترعي الأنظار في قضية النصولي، الأولى سبق لي أن ذكرتها مراراً وتكراراً، في كل ديار العالم، نجد المثقفين والمفكرين يجاهدون لإقناع حكوماتهم بحقوق النشر وحرية الفكر والحكومات تتردد في فك يدها. هذا ما يجري في كل مكان باستثناء العالم العربي. الحكومات، كما في قضية النصولي وقضية طه حسين، هي التي تتوسل بالمثقفين والمفكرين بأن يتطوروا ويتسامحوا مع الفكر. ثانيا، وجدنا في قضية النصولي كيف أن الآخرين ممن يؤمنون بحرية الفكر تضامنوا مع الكاتب وضحوا بوظائفهم دعماً له، وهو ما لا نسمع عنه في هذه الأيام. أليسوا على حق عندما يقولون إننا رجعنا إلى الوراء؟