عشر طروحات حول العولمة

TT

الشكوك حول عدالة النظام الاقتصادي العالمي، والتي تتخطى مظاهر الاحتجاجات المنظمة، ينبغي النظر اليها في ضوء الوجود المزدوج للفقر المدقع والرفاهية التي لا سابق لها في هذا العالم الذي نعيش فيه. ومع ان هذا العالم اصبح اكثر غنى بما لا يقاس، إلا انه يمكن ان يوصف في نفس الوقت بأنه عالم الحرمان الفظ واللامساواة التي تدير الرؤوس.

علينا ان نضع في اعتبارنا هذا التضاد الجوهري ونحن نحاول ان نفسر المخاوف والشكوك الواسعة حول النظام العالمي، ونستوعب تسامح الجمهور ازاء ما يسمى بالاحتجاجات «المعادية للعولمة»، رغم صخب وفوضى هذه الاحتجاجات، بل عنفها في بعض الاحيان. الحوار حول العولمة يقتضي تفهما افضل للقضايا المطروحة، والتي يميل البعض الى اغراقها في لجج المواجهة، من جانب، وحمى التصدي من جانب اخر.

ثمة نقاط عامة يجب ايلاؤها اهتماما خاصا:

1 ـ الاحتجاجات على العولمة ليست ضد العولمة في واقع الامر، وذلك لان هذه الاحتجاجات نفسها مظاهر صارخة للعولمة في عالمنا المعاصر. فجموع المحتجين والمتظاهرين في سياتل، ملبورن، براغ، كويبك وغيرها، لا تتكون من اطفال ينتمون الى تلك المدن، بل هي من رجال ونساء من كل انحاء المعمورة يتقاطرون على الموقع المحدد للتعبير عن مطالب ذات طابع عالمي.

2 ـ العولمة ليست ظاهرة جديدة ولا تقتصر على ظاهرة «التعذيب»، فطوال آلاف السنين امتدت وتطورت هذه الظاهرة من خلال الاسفار والتجارة والهجرة ونشر الثقافة ونقل المعارف والمفاهيم، (بما في ذلك العلوم والتقنيات).

هذه التأثيرات اتخذت مسارات متعددة. مثلا، عند نهاية الالفية التي انطوت للتو، كانت التأثيرات تنطلق بصورة رئيسية من الغرب نحو الاتجاهات الاخرى، ولكن في نهاية الالفية الاسبق، كانت اوروبا تتمثل العلوم والتقنيات الصينية، والرياضيات الهندية والعربية. اذن هناك تراث من التفاعل التاريخي تنسجم معه وتدخل في مساره، الاتجاهات المعاصرة.

3 ـ العولمة ليست جهدا ضائعا ولا مقولة فارغة، فهي اغنت العالم علميا وثقافيا، وعادت بالفوائد الاقتصادية على الكثيرين. ومن المعروف ان الفقر الواسع الانتشار والحياة «القذرة والوحشية والقصيرة»، على حد قول هوبس، كانت هي السائدة حتى قرون ليست بالبعيدة، مع جيوب متفرقة استأثرت بالرفاه. ولم تكن هزيمة الفاقة ممكنة إلا بفضل التقنية والعلاقات الاقتصادية المتبادلة. ومن نافلة القول ان معاناة الفقراء لا يمكن رفعها عن كواهلهم بحرمانهم من مزايا التقنيات الحديثة، او من كفاءة التبادل التجاري العالمي، او من فضائل العيش تحت نظم مفتوحة. المطلوب فعلا هو التقسيم العادل لثمار العولمة.

4 ـ القضية المركزية هي اللامساواة، سواء بين الامم او داخلها. ومظاهر اللامساواة نجملها في تفاوت الثروة، وفي الاختلالات في توزيع السلطة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. والسؤال المهم يتمحور حول كيفية اقتسام المكاسب المحتملة من العولمة بين الاقطار الغنية والفقيرة ومختلف المجموعات داخل البلد الواحد.

5 ـ القضية المهمة هي مستوى اللامساواة، وليس تغيير هوامشها، فمعارضو العولمة يختارون الميدان الخطأ لمعركتهم عندما يزعمون ان الاغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقرا. ومع ان الاداء الاقتصادي لاغلب الدول الفقيرة كان سيئا (لأسباب واعتبارات محلية وعالمية)، الا انه من الصعب تحديد ميول واضحة وقاطعة. وتعتمد النتائج على نوع المؤشرات والمتغيرات التي تُقيم بها اللامساواة والفقر.

ولكن يجب ألا يكون حسم هذا الجدل شرطا لمعالجة القضية المركزية ـ وهي الحجم الهائل للفقر واللامساواة ـ وليس ما اذا كانت هذه الظواهر تزداد حدياً. وحتى اذا كان مؤيدو النظام الاقتصادي المعاصر على حق حينما يزعمون ان الفقراء صاروا احسن حالا على وجه العموم، فان الحاجة الماسة لاعطاء مزيد من الانتباه المركز والعاجل للفقر المدقع واللامساواة الهائلة، تظل باقية.

6 ـ القضية ليست ما اذا كانت الجميع قد استفادوا، بل هي ما اذا كانت هذه الاستفادة عادلة. واذا كان هناك تعاون قائم، فانه يصبح ممكنا صياغة نظم بديلة تعود بالفائدة على الجميع، وتكون هذه الفائدة في نفس الوقت محققة لشروط العدالة.

وكما قال عالم الرياضيات ج. ناش، قبل نصف قرن، فانه عندما تكون هناك فوائد ناتجة عن التعاون، فان القضية الاساسية ليست ما اذا كان الناتج الاجمالي افضل مما سيكون عليه الحال اذا لم يكن التعاون قائما، بل هي ما اذا كان النظام المعتمد يضمن تقسيما عادلا للمكاسب. (جاء ذلك في ورقته «مشكلة المساومة»، التي اشارت اليها الاكاديمية الملكية السويدية عند منحه جائزة نوبل في الاقتصاد).

ويمكن توضيح المسألة بمثال آخر: اذا كنا نرى ان صيغة محددة للعلاقات العائلية ليست عادلة في حق النساء، فلا يلزمنا ان نبرهن ان النساء سيكنَّ في وضع افضل اذا لم تكن هناك عائلة اصلا، بل علينا فقط ان نثبت ان هذه العلاقات نفسها ليست عادلة بوضعها الحالي ويجب وجود صيغة اخرى.

7 ـ اقتصاد السوق ينسجم مع عدة صيغ مؤسسية، ويمكن ان تكون لهذه الصيغ نتائج مختلفة عن بعضها البعض. ولكن القضية الاساسية لا يمكن ان تكون الاستفتاء عن اقتصاد السوق، فليس من الممكن تحقيق اقتصاد غني بدونه. ولكن هذه النتيجة لا تنهي النقاش بل تبدأه. فالنتائج المختلفة التي يمكن ان تترتب على اقتصاد السوق تعتمد على توزيع الموارد المادية، وتطوير الموارد البشرية، وما هي قواعد اللعب المتفق عليها؟ وهكذا... وفي كل هذه المجالات تلعب الدولة والمجتمع ادوارا مهمة سواء على المستوى المحلي او العالمي.

السوق مؤسسة ضمن مؤسسات اخرى. وبالاضافة الى السياسات العامة المناصرة للفقراء في المجال الاقتصادي التي تتعلق بالتعليم والرعاية الصحية والعمالة والاصلاح الزراعي وسياسات التمويل والاقراض والحماية القانونية، وغير ذلك، فان توزيع فوائد المعاملات الدولية يعتمد هو الآخر على جملة ترتيبات عالمية. وهذه تشمل الاتفاقات التجارية وقوانين البراءات والمشاريع الطبية والتبادل التعليمي ونقل التقانة والسياسات البيئية والايكولوجية.. الخ.

8 ـ تغير العالم كثيرا منذ اتفاقات بريتون وودس. هذا المعمار العالمي الذي نشهده، سواء في جوانبه الاقتصادية، النقدية والسياسية (بما في ذلك البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي وغيرهما من المؤسسات)، ورثناه من الماضي، وتحديدا من اربعينات هذا القرن عندما انعقد مؤتمر بريتون وودس عام 1944. حينها كانت اغلبية الاقطار الآسيوية والافريقية تحت النير الامبريالي، وكانت درجة التصالح مع عدم الاستقرار والفقر اكبر، ومفهوم حقوق الانسان كان ضعيفا، ولم يظهر بعد نفوذ ووزن المنظمات غير الحكومية، ولم تكن قضايا البيئة بهذه الأهمية، كما ان الديمقراطية لم يكن ينظر اليها كحق عالمي.

9 ـ هذه هي اسباب نشوء الحاجة للتغييرات السياسية والمؤسسية. المؤسسات الحالية حاولت الاستجابة للظروف المتغيرة، فالبنك الدولي، مثلا، حاول تحت ادارة جيمس وولفنسون مراجعة اولوياته. كما حاولت الامم المتحدة، وخاصة تحت قيادة كوفي انان، ان تلعب دورا اكبر رغم ضيق مواردها المالية.

ولكن الوضع يقتضي تغييرات اكثر. والحقيقة ان الحاجة ظهرت لتغيير بنية السلطة والنفوذ التي يستند اليها المعمار المؤسسي، ومراجعتها في ضوء الواقع السياسي الجديد، والذي لا تمثل فيه الاحتجاجات العالمية سوى تعبير غير متماسك.

ان توازن القوى الذي اقام الصروح الحالية في الاربعينات، يجب ان يخضع للمراجعة. خذ مثلا، مشكلة ادارة النزاعات والحروب المحلية، والانفاق على التسلح. ومع ان دول العالم الثالث تتحمل معظم المسؤولية عن استمرار الحروب والدمار، الا ان القوى العظمى ظلت تشجع تجارة السلاح التي تكون هي نفسها مصدرها. وكما اوضحت تقارير الامم المتحدة، فان اعضاء مجلس الامن الخمسة هم بالضبط المصدرون الخمسة الاوائل للسلاح، بل هم مسؤولون عن تصدير 86 في المائة من كل الاسلحة التقليدية اثناء الفترة المعنية. ويصبح واضحا تماما لماذا تعجز المؤسسات الحالية عن ايقاف تجار الموت عند حدهم. وما الصعوبات التي يواجهها اقتراح كوفي انان بمحاربة تجارة السلاح غير القانونية، إلا دلالة واضحة على اختلال توازن القوى الحالي.

10 ـ العولمة الايجابية هي الاجابة عن الشكوك حول جدوى العولمة. الاحتجاجات على العولمة ليست سوى مظاهر للعولمة نفسها، والتي لا مهرب منها. ولكن مع اننا نؤيد العولمة في افضل صيغها، الا اننا يجب ان نبدي نفس الحرص على اجراء التغييرات السياسية والمؤسسية التي تقتضيها العولمة. ولا يمكن تبديد الشكوك بدون ازالة الاسباب التي ولدت الشكوك. وهذا استنتاج يجب ألا يفاجئ احدا.

* عميد كلية «ترينيتي» بجامعة كمبريدج وحائز جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1998 ـ خدمة «لوس انجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»