الرمزية الخطرة

TT

مثلما يكون من الخطر ترك أمور الحرب للجنرالات، فمن الصعب ترك العدالة للقضاة وحدهم. وتنطبق هذه الحال على وجه الخصوص عندما يستخدم القضاة القانون كسلاح في وجه الأعداء السياسيين.

وقد رأينا مثالا على ذلك في قضية رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو بيرلسكوني، الذي عجز خصومه السياسيون عن إلحاق الهزيمة به في الانتخابات، فحاولوا إلقاءه في السجن من خلال الإجراءات القانونية.

وفي سياق مختلف، كان هناك مثال آخر خلال الأسبوع الحالي، حيث أصدر ممثل الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني عمر البشير، بتهمة ارتكابه جرائم تتعلق بالإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب في دارفور. وهذه هي المرة الأولى التي يتم فيها توجيه مثل هذه التهم إلى رئيس دولة من قبل المحكمة الجنائية الدولية. وسوف يكون على القاضي الآن دراسة أدلة ممثل الادعاء ويقرر ما إذا كان سيتم إصدار المذكرة. ويمكن أن يستغرق هذا الإجراء من ثلاثة إلى ستة أشهر.

وليس من قبيل المفاجأة أن تصف المؤسسات الإنسانية والمعلقون الليبراليون قرار ممثل الادعاء بأنه عمل بطولي. ومع ذلك، فإننا نناقش هذا القرار على ثلاثة محاور.

ولنبدأ بأولها، وهو أن ممثل الادعاء ربما لا يستند إلى أدلة قانونية دامغة.

وللوهلة الأولى، يبدو أن ممثل الادعاء يتصرف داخل إطار القانون وبموجب تقرير مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، الصادر في عام 2005، والذي أشار إلى الجرائم التي ترتكب في دارفور. وقد قامت الحكومة السودانية بكل ما تستطيع من أجل إبطال هذا القرار. ومن الجدير بالذكر، أن السودان رفض تسليم أحمد هارون وقائد الجنجويد علي كوشيب، وكان ممثل الادعاء قد أصدر مذكرتين بحقهما عام 2007.

ولذلك، فإن المشكلة التي نواجهها هي نقص التعاون من قبل الحكومة السودانية مع المحكمة الجنائية الدولية والنزاع حول كيفية التحقيق مع هارون وكوشيب. والإجراء القانوني في هذه الحالة هو توجيه تهمة ازدراء المحكمة للسلطة في الخرطوم، وليس إصدار مذكرة إيقاف بحق رئيس الدولة السودانية.

ولم يقم ممثل الادعاء بتوجيه تهمة محددة المعالم للبشير. وليس هناك إجماع دولي على أن مأساة دارفور يمكن أن توصف بأنها إبادة جماعية.

وما يحاول ممثل الادعاء فعله، هو القبض على رجل قبل توافر المسوغات المنطقية لتوجيه التهم إليه، وبعد ذلك يستغل هذا الرجل في توفير هذه المسوغات.

ومثل هذا الإجراء لا يمكن له أن ينجح في ظل أي نظام طبيعي للعدالة.

والسبب الثاني لعدم صحة قرار ممثل الادعاء، سبب سياسي.

فبغض النظر عن القرار الذي تتخذه الحكومة السودانية بشأن دارفور، فإن مثل هذا القرار يجب أن يتخذه البشير. ومن شأن إصدار مذكرة التوقيف هذه التي تبدو وكأنها سيف مسلط على رقبته، أن يجعل أولويته تتجه إلى حماية نفسه وأن يعمل على رأب الصدع في نظام حكمه بدلا من إحلال السلام في دارفور. وبما أنه مطلوب للعدالة، فربما لا يكون لديه الحافز الكافي للمساعدة في خلق جو يكون من السهل فيه تنفيذ مثل هذه المذكرة. وما الذي سوف تفعله الأمم المتحدة والقوى العظمى المعنية بأزمة دارفور؟ هل ستستمر في التعامل مع البشير، كما لو أنه لم يحدث شي؟ أم انها ستتوقف عن التعامل معه كطرف شرعي؟

إن محاولة القبض على البشير ربما ستؤدي إلى المزيد من إلحاق الضرر بملفات أخرى.

فقد تقوي هذه المحاولة من شوكة الجماعات المتشددة. فالعناصر المتشددة في المعارضة يمكن أن تقرر أنه من الأفضل التشدد حتى تُحكم المحكمة الجنائية الدولية و«المجتمع الدولي» الطوق حول البشير. وربما يقرر المتشددون في نظام الخرطوم أن الطريقة الوحيدة للنجاة هي تبني منهج متشدد لا يسعى للوصول إلى الحلول الوسط.

ومن شأن سيطرة الجماعات المتشددة أن تعصف بالاتفاق الهش بين الشمال والجنوب، والذي تعرض لهزة عنيفة بالفعل بسبب الصدامات العسكرية الأخيرة. كما يمكن قتل جميع الفرص المتاحة للتوصل إلى سلام في دارفور ومنع الانتشار الفعال لمهمة المساعدة التابعة للأمم المتحدة وقوات حفظ السلام الدولية المسؤولة عن حياة 2.2 مليون شخص هناك. وأخيرا وليس آخرا، فإن تحرك ممثل الادعاء يمكن أن يقتل آمال احتواء هذا الصراع، وأن يثير المزيد من القلاقل وأن يزيد من نطاق الحرب إلى الدول المجاورة مثل تشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى.

إن محاولة اتهام رئيس الدولة بالإبادة الجماعية، تتضمن اتهام كل السودانيين بمن فيهم أولئك الذين يقفون في صفوف المعارضة. وقد شهدنا حادثة مماثلة عندما أصدر قاض إسباني مذكرة توقيف بحق الرئيس التشيلي السابق أوغوستو بينوشيه أثناء زيارته لبريطانيا. وقد فشل هذا التوجه. بل انه ساعد على زيادة شعبية بينوشيه في بلاده. حتى أن الاشتراكيين نسوا معاناتهم على يد بينوشيه وعبروا عن غضبهم بسبب ذلك الموقف من قبل القاضي الأجنبي. وأخيرا، فإن تحرك ممثل الادعاء يمكن أن يضر بسلطة القانون الدولي، لا سيما المحكمة الجنائية الدولية. وهناك احتمال ضعيف لتنفيذ مثل هذه المذكرة التي تعتبر رمزية أكثر منها واقعية. ومما يجب على القضاء فعله ألا يستغني عن العدالة في مقابل الرمزية.

لقد اشتهر اسم ممثل الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية وربما يتم ترشيحه لنيل جائزة نوبل أو جائزة مشابهة. لكن المجتمع الدولي عليه مسؤولية ترتيب الفوضى التي خلفها.

ولكن كيف يمكن عمل ذلك؟

إن مفتاح عمل ذلك في يد مجلس الأمن. فعلى مجلس الأمن استغلال الفترة التي يحتاج إليها القضاة للنظر في طلب ممثل الادعاء، بصورة جيدة من خلال بدء حوار مع الخرطوم على أعلى المستويات والتركيز على مجموعة من المقاييس المحددة لحماية السلام بين الشمال والجنوب وتعزيز إجراءات إحلال السلام في دارفور. ويجب إقناع كل من الصين وروسيا بالتوقف عن التدخل لإحلال السلام، كما يجب على الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الاضطلاع بمسؤولياتهما من خلال توفير المزيد من القوات والموارد لمهمة الأمم المتحدة.

وربما يصعب على مجلس الأمن معارضة طلب ممثل الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية. فالمعارضة المباشرة يمكن أن تؤثر في هيبة منصبه وتجبره على الاستقالة. وبذلك، يتضح أن المحكمة الجنائية الدولية ما هي إلا لعبة في يد القوى العظمى. ومع ذلك، يمكن الوصول إلى حل سياسي وسط، حيث يمكن إقناع ممثل الادعاء بسحب طلبه، وذلك ممكن بموجب قوانين المحكمة الجنائية الدولية. ولكن حتى إذا لم يفعل ذلك، فإن مجلس الأمن يمكن أن يعطي الضوء الأخضر لإصدار المذكرة ولكن يوقف تنفيذها لمدة 12 شهرا. ويمكن تمديد هذه الفترة كل عام.

إن الضغط على الحكومة السودانية يجب أن يستمر. لكن دارفور يجب ألا تكون سببا لتشتيت الانتباه عن الإجراءات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي نحتاج إليها لمعالجة هذه الأزمة.