الحوار لمواجهة رؤى صراع الحضارات ونهاية التاريخ

TT

تتركزُ رؤيتا نهاية التاريخ وصراع الحضارات ـ رغم اختلاف الأصل الفلسفي والاستراتيجي ـ على الموقع المنتصر والمتقدم الذي حققتْهُ «الحضارةُ الغربيةُ» بإنهاء الحرب الباردة لصالحها. فنهايةُ التاريخ لدى الأستاذ فرانسيس فوكوياما تعني بلوغَهُ ذِروتَهُ، بانتصار القيم الديموقراطية. ذلك أن «التاريخ» في هذه الرؤية ظلَّ مسرحاًً لصراع هائل بين قيمٍ وممارساتٍ ومصالح؛ في الوقت الذي كان يسير فيه رغم الطلعات والنزلات إلى غاياته المحتومة. وقد انحسم الصراعُ ببلوغ ذلك المصير السعيد والمحتوم: انتصار الحرية والديموقراطية، وهما القيمتان الرئيسيتان في الحضارة الغربية. وبذلك تنتهي الصراعاتُ الكبرى، وينحصرُ المطلوب ضمن هذه الرؤية المانوية في ضرورة متابعة جيوش النور لأشباح الظلام المنهزمة، وإزالة بقاياها.

أما رؤيةُ صراع الحضارات التي اقترحها الأستاذ هنتنغتون، فتنتهي إلى النهاية نفسِها؛ لكنْ من مقدّماتٍ مختلفة. فقد غَصَّ التاريخُ بعشرات الحضارات، والتي تتمحورُ كلٌّ منها في الغالب حول دينٍ معيَّن. والباقي المؤثّر منها في الزمن الحاضر سِتٌ أو سَبْعٌ تتقدَّمُها الحضارةُ الغربيةُ اليهودية/ المسيحية في الإمكانيات والقيم والحيوية، وتتكوكبُ من حولها الحضاراتُ الأُخرى بسلاسةٍ وبدون تحدٍ ظاهر، باستثناء الكونفوشيوسية ـ البوذية، والإسلام. وهناك خَطَرٌ قائمٌ يتمثّلُ في إمكان تحالُف الحضارتين الأخيرتين في مواجهة الحضارة الغربية اليهودية/ المسيحية. لكنّ العقود الأخيرة شهدتْ تطوراتٍ في قلب الحضارة الكونفو ـ بوذية تشير إلى تقارُبٍ كبيرٍ مع حضارة الغرب بسببٍ من نزوعها لتحقيق النجاح من طريق الانضباط واعتناق قيم الحداثة الغربية، وبذلك يبقى الخطرُ متمثّلاً في الإسلام الذي يملك «تخوماً دموية».

تقومُ الرؤيتان إذن على مركزية الحضارة الغربية وتفوُّقها في الإمكانيات والقيم والممارسات والحيويات. ومن أجل ذلك كلِّه صارت حضارةَ العالَم، لكنْ في حين لا يرى الأستاذ فوكوياما أخطاراً كبرى أمامها باعتبارها حتميةً تاريخية، يرى الأستاذ هنتنغتون أنّ التحديات أمامها ما تزال كبيرة، وأكبرها الإسلام. ولذا فالنقاشُ الأساسي مع الرؤيتين أو الفَرَضيتين يتمثّل في دعوى المركزية الحضارية. ويُضافُ لذلك مع الأستاذ هنتنغتون: خصومة الإسلام لتلك الحضارة، ورؤيته لطبائع الصراع في عالم اليوم.

تأتي مركزيةُ الحضارة الغربية لدى الأستاذ فوكوياما في الظاهر من قيامها على مركزية الإنسان فيها، بما يحقّقُ تقدُّمَهُ المتمثل في الحرية والديموقراطية. أمّا عند الأستاذ هنتغتون فتأتي مركزيتُها من التفوق القيمي لعنصريها التكوينيَّين الأساسيَّين: اليهودية والمسيحية. وبدون الدخول في جدالٍ بشأن فكرتي التقدم والتفوق؛ فالواقعُ أنّ الشاهدَ الأبرَزَ على صحة الرؤيتين في نظر الأُستاذين هو الغَلَبة ولا شيء غير الغَلَبة. فالغربُ الأوروبي والأميركي سواءٌ أكان سائراً حقاً باتجاه ذروة التاريخ، أو باتّجاه سواد القيم اليهودية/المسيحية، سيطر على العالم في القرون الثلاثة الأخيرة. وقد توازى في تلك السيطرة أو أدّى إليها تَلازُمُ التقدم العلمي مع القوة العسكرية والاستراتيجية. وفي كلّ دورةٍ تاريخيةٍ كانت تحدثُ فيها تلك السيطرة لصالح إمبراطوريةٍ معينة، ينشأُ لدى المنتصرين وبعض المغلوبين انطباعٌ بتفوُّقٍ دينيٍ أو حضاريٍ أو الاثنين معاً. فالمغولُ مَثَلاً ـ وليس اليونانيون أو الرومان أو المسلمون فقط ـ والذين أبادوا رُبع سُكّان العالَم المعمور، سمَّوا الجزءَ الشرقيَّ من إمبراطوريتهم: دولة السلام الأبدي أو السماوي. وهتلر سمَّى دولتَه: دولةَ الألف عام! ومع أنّ الانتصار يكونُ عسكرياً في الأساس؛ فإنّ المنتصرين كانوا يُصرُّون على أنّ حضارتَهم هي التي أزالت حضارةَ المغلوبين. هكذا فعل الرومان مع اليونان، وهكذا اعتقد المسلمون مع الفرس والبيزنطيين. والفرسان الصليبيون مع المسلمين. وفي كلّ هذه الحالات ما كانت حضارةُ المغلوبين ولا كان دينُهُم يزولان، بل يستوعبُ الغالبُ أساسيات حضارة ودين المغلوبين، وتصبحان عنصراً تكوينياً في ثقافة الأمبراطورية الغالبة. وذلك أنّ الصراع لا يحدثُ بين الحضارات، بل بين الأُمم والدول، ومن أجل السيطرة على المجالات الاستراتيجية والموارد. ويأتي وَهْمُ الصراع بين الحضارات من أنّ الطرفين الغالب والمغلوب، يستخدمان مخزونهم المادي والرمزي في الصراع المصيري الذي يخوضونه. ولا شكَّ أنّ الأديان والرموز الثقافية والحضارية الأُخرى، تأتي ضمن الأمور التي يستخدمها خائضو الصراع على حدٍ سَواء، والمغلوبون أكثر من الغالبين طبعاً.

والذي أراهُ أنّ لهذه الغَلَبة أيضاً علاقةً قويةً بهذا الضِيق الغربي والانزعاج الغربي من الإسلام. فمنذ الفوز على النازية والفاشيّة، وهما فكرتان ونظامان غربيان ـ ظلّت التعددية الصراعية ضمن المنظومة الغربية هي السائدة، وتمثّلت في الاتحاد السوفياتي ومنظومته في وجه المنظومة الرأسمالية. وعندما شارفت الحربُ الباردةُ على الانتهاء، تلفَّتَ المفكرون والاسترايجيون لاستكشاف مستقبل الغَلَبة بعد أن اعتبروا أنّ الحضارةَ الغربيةَ تقفُ الآن موحَّدةً ومنتصرةً على مشارف قرنٍ جديد، فاعتبر الصراعيون وأهل الغَلَبة من بينهم أنّ العالمَ الإسلاميَّ والإسلام هو الخَصْمُ الباقي أو لنقُلْ إنه أبرزُ الخصوم الباقين، ومن خارج المجال الحضاري الغربي هذه المَرّة. والواقعُ أنَّ ذلك لا يعودُ لطبيعة الإسلامِ نفسِه، بل لأسبابٍ أُخرى، أولُها المتغيِّرات داخل الحضارة الغربية نفسها حيث يحدثُ ثَوَرانٌ دينيٌّ بروتستانتي في الولايات المتحدة، وتظهرُ انكماشيةٌ قويةٌ داخل العالم الأوروبي تضيقُ بالتزامات ومسؤوليات الانتصار وتبعاته. وبذلك يتصاعدُ اتجاهان متناقضان داخل المنظومة الغربية، أحدُهما يميلُ للاكتساح على المستوى الديني أيضاً وليس العسكري والاستراتيجي فقط، والآخر يميلُ للانكماش من أجل استيعاب نتائج النصر، والتأمل في التبعات والمتغيرات المختلطة التي ترتّبتْ على الغَلَبة. وثاني تلك الأسباب بروز القارة الآسيوية، وبخاصةٍ شرقُها باعتبارها بيئةً للنهوض الاقتصادي والشراكة المفروضة على الغرب المنتصر. وقد شكّل هذا المتغيّر البالغ الأهمية تحدياً صار ضرورياً أَخْذُهُ في الحسبان، وعدم المسارعة للاصطدام. والسببُ الثالثُ هو المشاعرُ السلبيةُ في العالم الإسلامي تُجاه الغرب نتيجةَ تفاقُم المشكلات التي تسبّبَ بها في مناطق مختلفة من العالَمين العربي والإسلامي، في زمن الاستعمار، وزمن الحرب الباردة. هذا من جهة. ومن جهةٍ ثانية ازدياد حاجة الغرب المنتصر لموارد الطاقة، والممرات الاستراتيجية، من أرض العرب والمسلمين، دونما إرادةٍ حقيقية لحلّ المشكلات المتراكمة على مدى القرن العشرين. ولا شكَّ أنّ هذين الأمرين، كانا بين عِلَل الثوران الإسلامي لعكس الأسباب التي ثار من أجلها البروتستانت أو تياراتُهُم الجديدة. فالثَوَران عندهُم ثورانٌ انتصاريٌّ كبير، بينما الثورانُ بداخل الإسلام إنما كان سببه الإحباط ومشاعر اليأس. وقد فاقَمَ من هذه الظاهرة استعانةُ الأميركيين بها في أفغانستان في الثمانينات، والإحساس بالخديعة نتيجةَ سياسات الأَوحديّة القطبية منذ التسعينات.

.. وهكذا فإنّ سوء العلاقة في الأصل ليس له سببٌ ديني، وإنما هي أسبابٌ سياسيةٌ واقتصاديةٌ واستراتيجية. لكنّ الطرفين ـ وبخاصةٍ الطرف العربي والمُسلم ـ استخدما المخزون الرمزيَّ الديني والتاريخي بإسْراف، بحيث بدا في النهاية كأنما الصراعُ صراعُ حضاراتٍ وأديان، وهو ما كان على هذا النحو في الأصل. فالذي نواجِهُهُ نحن العربَ والمسلمين ومنذ مدة، مع غرب ما بعد الحرب الباردة، أمران، وكلاهما لا يمكن التصدِّي له بالمعالجة، وصُنْع المخارج، إلاّ بالحوار. الأمر الأولُ ديني/ثقافي، صارت الذاكرة، وصارت وسائل الإعلام، والصُوَر التاريخية، تلْعبُ فيه دوراً بارزاً ومؤثّراً، والمعنيُّ به العلاقاتُ الإسلاميةُ/المسيحية، وعلاقاتُ الشرق بالغرب.

يقول الباحث الكاثوليكي المعروف هانز كينغ H. Kung إنه لا سلامَ في العالم اليوم إلاّ بالسلام بين الأديان، ولا سلام بين الأديان إلاّ بالسلام بين المسيحية والإسلام، ولا سلامَ بين المسيحية والإسلام إلاّ بالتوافُق على قيمٍ مشتركة. فالمطلوبُ في هذا الصدد الوصولُ من خلال حوارٍ ـ كالذي نخوضُهُ اليوم ـ التذاكُرُ في المشتركات القيمية والإنسانية بل والدينية، وتنحية انطباعات وأَوهام نهاية التاريخ والمركزيات وصراع الحضارات، وإقامة الشراكات التي تفتح الأفَُقَ على مفهوم التعارُف، أي الاعتراف المتبادَل، الذي دعا إليه القرآن الكريم.

أما الأمر الثاني فهو عامٌّ، ويتناولُ الأسباب الحقيقية للصراعات الناشبة حالياً. وهي القضايا الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية. وهذه مسائل تُهمُّ البشرية كلَّها.وقد تعطّل البحثُ فيها إبّان الحرب الباردة، (لانفراد القطبين آنذاك بالشأن العالمي صراعاً أو تعايُشاً). أمّا بعد انتهاء الحرب الباردة؛ فإنّ النقاشَ ما سار قُدُماً، لأنّ الولايات المتحدةٍ سعتْ وبالحرب لأوحديةٍ قُطبيةٍ، زادت من التوتر والخراب على المستوى العالمي، وبخاصةٍ في مجالنا العربي والإسلامي. فالمطلوبُ الآن، وقد تعلَّم الأقوياء، أنّ السيطرة لا يمكن فرضُها بالقوة مهما بلغت الفروقُ في الإمكانيات والقُدُرات بين الطرفين المتصارعين، العودة ومن طريق الحوار لبناء النظام العالمي الجديد بالفعل، القائم على الشراكات، والاعتماد المتبادَل.

ويتفرعُ على معالجة هذين الأمرين: الديني/الثقافي من جهة، والجيواستراتيجي من جهةٍ ثانية التصدي بالفعل للمشكلات المستعصية في العالمين العربي والإسلامي، والتي كان الغربُ والوضع العالمي، في أصل نشوئها وتَفَاقُمِها. والوصولُ إلى تفاهُمات من طريق الحوار والدبلوماسية، يعني توافُرَ الإرادة للمعالجة، بعد طول غياب.

إننا نعلمُ أنّ الثوران الديني، وتغيُّر الموازين العالمية في المجال الاقتصادي والاستراتيجي، وزيادة الاعتماد على الموارد النفطية بالمشرق العربي والإسلامي، دونما اهتمامٍ إلاّ بتوازُنات القوة؛ كلُّ ذلك أحدث اضطراباً شديداً في العلائق بين الأديان، وبين الشرق والغرب. بيد أنّ هذا الاضطرابَ لا يُعالَجُ بالمركزيات وفرض نهايات للتاريخ، وصراعات وهمية بين الحضارات. وإنما يُعالَجُ بحوارات القيم والمصالح: المصالح المتوازنة، وقيم العدالة والحرية والسلام.

(*) محاضرة ألقيت في المؤتمر العالمي للحوار في مدريد يوم الخميس في 17/7/2008

(**) أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية ـ بيروت (لبنان). من كتبه: الإسلام المعاصر (1987)، والجماعة والمجتمع والدولة (1997)، وسياسيات الإسلام المعاصر (1997)، والصراع على الإسلام (2005)، والمستشرقون الألمان (2007).