الحوار الديني في مدريد

TT

في اليوم الأول من مؤتمر الحوار الديني المنعقد حاليا بمدريد، وجدت نفسي في موقع المدافع المضطر عن الموقف السعودي في هذه التظاهرة الكبرى، بعد أن مال محاوري الأمريكي في البرنامج التلفزيوني المباشر إلى تكرير سيل الاتهامات الزائفة، التي واكبت انعقاد هذا المؤتمر، الذي كنت شاهدا على انطلاقته الأولى في مكة المكرمة، وحاضرا في محطته الراهنة.

اعتبر الرجل وهو باحث معروف في الشؤون الدولية ان المؤتمر كله ليس سوى حملة علاقات عامة للتغطية على «دور المملكة في دعم التطرف» وعلى «النهج المنغلق المتعصب الذي تسلكه داخليا». وذكر ان هذا الحوار ناقص لان اليهود غابوا عنه ولم يحضره سوى بعض رجال الدين المسيحيين.

ذكرت للرجل الذي لم يكن حاضرا للمؤتمر ان المشاركة اليهودية كانت لافتة وواضحة في مؤتمر مدريد، الذي حضره عدة حاخامات، وان كان ليس من بينهم صهاينة او إسرائيليون لأسباب بديهية، تعود من جهة الى ان السعودية لم تطبع مع إسرائيل، ومن جهة أخرى الى ان الايديولوجيا الصهيونية ليست سوى نزعة قومية علمانية متطرفة مرفوضة داخل الحقل الديني اليهودي، ولا يمكن ان تمثل اليهودية في عمقها الديني والثقافي.

أما القول بان المؤتمر مجرد حملة إعلامية للعلاقات العامة فافتئات جلي على الحق، باعتبار ان الحوار مع الديانات الأخرى شكل دوما احد الثوابت الكبرى في السياسة الدينية السعودية منذ الستينيات، وتحول في السنوات الأخيرة الى أحد المحاور الرئيسية في البرنامج الإصلاحي للملك عبد الله بن عبد العزيز منذ وصوله للحكم.

فالرجل الذي بدأ في المملكة خطوات جريئة للتحاور الداخلي بين مختلف مذاهب وطوائف الطيف الديني، شملت الشيعة والمتصوفة والإسماعيلية.. هو الذي طرح مبادرة الحوار مع المنتسبين للديانات الأخرى، ومهد له بملتقى إسلامي واسع خرج بتصور لا لبس فيه حول مشروعية وراهنية هذا الحوار مع الآخر الذي أصبح ضرورة لا غنى عنها.

وكان من الأحرى تثمين هذه المبادرة، التي انطلقت من بلاد الحرمين، مما يكسبها طلاوة رمزية خاصة، في الوقت الذي انتكس النهج الانفتاحي للكنيسة الكاثوليكية بعد رحيل البابا يوحنا بولس الثاني، الذي زار بلدانا كثيرة في العالم الإسلامي رافعا شعار المودة والتقارب.

والمفارقة القائمة في الواقع، هي ان التشكيكات التي تصدر حاليا حول جدوائية الحوار الديني تتركز في الجانب الآخر، كما يبدو من التعليقات والتحليلات التي واكبت انعقاد المؤتمر في الصحافة الغربية، في حين لا نجد سوى المتعصبين والمتطرفين من بين المسلمين يرفضون هذا النهج.

فالذين يشككون في جدوائية الحوار يصدرون إما عن اطروحة انغلاقية العقائد التي تعني استحالة التوفيق او التقريب بين المسلمات الإيمانية، او عن النظرة التضخيمية لأثر البيئة السياسية على المعادلة الدينية.

فبخصوص الأطروحة الأولى يسجل للمؤتمر انه تفادى مسلك المناظرة العقدية العقيم وطرح مفهوم الحوار بين أصحاب الديانات، وليس بين المعتقدات نفسها. فتجارب المناظرات والردود السابقة بينت ان السياج العقدي لا يخضع للادلة العقلية والفلسفية، بل يصدر عن معيار «الصلة بالغائب الخارجي»، الذي اعتبره المفكر وعالم الاجتماع الفرنسي رجيس دوبريه المقوم المؤسس للثقافات الانسانية بما فيها بعدها السياسي.

وبخصوص الأطروحة الثانية يمكن القول ان المعادلة السياسية وان كانت حاضرة ضمنيا ومؤثرة فعلا، الا ان العامل الديني بقدر ما يمكن ان يكون عائقا وعقبة، يمكن أيضا ان يكون حافزا للسلم والتقارب ان كان الحوار بين رجال دين صادقين وان اختلفت مللهم وعقائدهم.

فالنسق القيمي في الديانات يكاد يكون متماثلا متجانسا، فلكل منها نظرته المعيارية للفضائل والعدالة والسلم، وهذا المرتكز القيمي هو السمة المميزة للظاهرة الدينية نفسها.

صحيح ان الانتماء الديني يمكن ان يكون حافزا للتعصب والتطرف، شأنه شأن الانتماء الإيديولوجي (باعتبار ان الإيديولوجيات هي الديانات الكبرى للعصور الحديثة المعلمنة)، الا ان هذا الانتماء لو تجاوز حد التشبث الدوغمائي بالهوية الخصوصية واستكنه الدين في أبعاده الرمزية والقيمية الرحبة، تحول الى أكثر الدوافع للمحبة والرحمة والتكافل الإنساني.

وفي هذا الخصوص اعترف لي احد رجال الدين البوذيين الحاضرين في مؤتمر مدريد، انه من كثرة ما سمع من تشويه للإسلام في الإعلام السيار نشأت عنده صورة مشوهة لهذا الدين، وقد فوجئ وهو يتهيأ للمشاركة في المؤتمر ان بعض الكتابات التراثية الإسلامية أشادت بتعاليم بوذا، مما يكشف عن رحابته وعمقه الإنساني الذي يستحق الاستكشاف.