النهاية كانت مجرد لعب

TT

جاء في الحديث الشريف: من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى تجارة يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه.

هذا الحديث الشريف جعلته دائما في حياتي قنديلا أمام عيني أهتدي به في ظلام الليالي الحالكات، في كل أسفاري وتنقلاتي بين قارة وقارة، وبين بلد وآخر، بل حتى بين شارع وشارع. والذي دعاني إلى هذه المقدمة التي لا بد منها هو فقط لكي أوضح هدفي من رحلة رافقت بها أحد معارفي في أوائل السبعينات الميلادية.

كان هو ما شاء الله مهاجراً ومسافراً من جدة إلى لندن ومنها (ترانزيت) إلى بوسطن في أميركا لمواصلة دراسته هناك، وكنت أنا مسافرا من جدة إلى لندن، ومنها إلى (هارلي ستريت)، وهو شارع معروف في مدينة لندن فيه جميع عيادات الأطباء والدكاترة ـ وذلك لكي أعمل (تشييك) ـ أي الكشف على جميع أعضاء جسمي ما ظهر منها وما بطن، وهذه عادة مستحبة جبلت عليها منذ أن أحسست بنعمة العافية واللياقة البدنية الخلاقة التي أفاخر بها بين الأمم، وبعد أن أنتهي من ذلك (التشييك)، آخذ راحتي على الآخر.

المهم قبل أن نسافر بيوم واحد اقترح عليّ ذلك الشخص أن أرافقه لأداء العمرة في مكة المكرمة، واعتذرت منه على أساس أنني قد أديتها قبل أيام، وذهب هو لوحده.

وفي اليوم التالي صعدت معه في طائرة (الترايستار)، وكنت وقتها أجلس على الكرسي الأوسط، وهو على شمالي بجانب النافذة، وعن يميني كانت تجلس امرأة بريطانية مسّنة على ملامحها بقايا من جمال أيام الصبا والشباب الذي ذهب إلى غير رجعة. وما أن أخذت الطائرة سرعتها القصوى، وقبل أن ترتفع بلحظات وإذا بنا نسمع شبه انفجار في أسفل الطائرة، وبعدها أخذت ترتفع ببطء رويداً رويداً مع اهتزازات عنيفة إلى درجة أن المخازن العلوية بالطائرة أخذت تتفتح الواحد تلو الآخر لتتساقط الحقائب والحاجيات على رؤوسنا، وما زلت أذكر أسطح المنازل (وأنتينات) التلفزيونات وقتها التي توقعت أن بطن الطائرة سوف يلامسها. وبعد دقائق عصيبة ارتفعت الطائرة واستقرت، وساد الهدوء المخيف، وأخذ المضيفون يتراكضون ويرفعون ما تساقط من المخازن، والمضيفات بدورهن أخذن يتقافزن ويمنحننا بابتساماتهن البلهاء جرعات من التشجيع، وبينما كنت مواصلا ارتجافاتي، وإذ بصوت (كابتن) الطائرة يأتينا عبر (الميكرفون) يصارحنا أن إحدى عجلات الطائرة الخلفية قد انفجرت واحترقت، ولكن مطار (هيثرو) في لندن قد أخذ احتياطات لنزولنا، وعلينا ألاّ نخاف، فإطفائيات الحريق سوف تكون جاهزة حالما نهبط.

عندها أخذت أصب جام غضبي وشتائمي على رفيقي، وكيف أنه أناني ولم يرغمني ويجرني معه جراً للذهاب إلى مكة لأداء العمرة، وأصابني هلع عظيم من جراء ادعائي كذباً أنني قد أديت العمرة قبل أيام، وكيف وبأي وجه سوف أقابل ربي؟!

وبعد ست ساعات أخذت الطائرة تهبط ورؤوسنا جميعاً كانت بين ركبنا حسب التعليمات، خبطت الطائرة على المدرج بارتجافات واهتزازات عنيفة جعلت الحقائب تتساقط مرّة أخرى على رؤوسنا، وبعد دقائق خلتها ساعات توقفت الطائرة، وإذ بالجميع يصفقون ويتصايحون، ورفيقي من هول الفرحة لوح رأسي وطبع قبلة على صدغي الأيسر، كما أن المرأة البريطانية استغلتها فرصة وطبعت قبلة محترمة على صدغي الأيمن، الذي أصبح لونه أحمر من (الروج) وكذلك من شدة الخجل.

توقفت الطائرة بعيداً، وأخذنا ننزل من على السلالم، وكانت في استقبالنا مجموعة من (الأوانس) يعطين كل واحد منا وردة بيضاء علامة (الحمد لله على السلامة).. ومن شدّة حنقي نظرت للوردة وبدلا من أن أشمها أكلتها.

وأذكر أنني جلست وقتها في لندن شهرا كاملا متواصلا، لعبت فيه لعبا لم ألعبه طوال حياتي.

[email protected]