الجديد في مبادرة خادم الحرمين للحوار العالمي

TT

الحدث الاكبر الذي شد انتباه كل مهتم بالسلام العالمي اليوم، كان في مدريد هذا الاسبوع على مدى ثلاثة ايام في المؤتمر العالمي للحوار الذي دعا اليه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز.

ولعل اهم ملامح الحدث كان استقبال الحضور، من كافة انحاء المعمورة، ومن اتباع عشرات الاديان لكلمتي العاهل الاسباني جلالة الملك خوان كارلوس، وخادم الحرمين.

وقفت اكثر من 300 شخصية تمثل او تتبع عشرات الاديان، في حملة تصفيق استمرت خمس دقائق Standing ovation ، بسبب جوهر كلمة الملك عبدالله وما جاء فيها من فلسفة عميقة جديدة، تعتبر مقدمة طلائعية في فكرة الحوار العالمي بين الثقافات والاديان.

جلسة الافتتاح ترأسها ملكان عظيمان لكليهما تاريخ مشرف في استعادة الخير والتقدم من بين براثن الشر والتخلف.

المضيف، استعاد الديمقراطية لإسبانيا بعد عهود من الفاشية العسكرية، ووحد تيارات الامة الممزقة، وشهدت البلاد في عهده رخاء وتقدما كبيرين وتقاربا مع العالم الخارجي خاصة العالم الاسلامي وافريقيا والشرق الاوسط.

والضيف الكبير ملك يرى في استعادة جوهر الدين العظيم رسالته المعاصرة بنشر السلامين الاقليمي والعالمي؛ خاصة بعد اختطاف جوهر الدين الحنيف على ايدي اقلية ذات اطماع سياسية غير حميدة، شوهت ملامحه؛ فحاول ابن عبد العزيز ازالة التشويهات عنها، واستعادة الوجهة الجميلة للاسلام وابرازه لممثلي عشرات الاديان.

فكرة الحوار بين الثقافات والاديان ليست بجديدة، وانما قديمة قدم قوافل التجارة بين القارات، والتنافس على الموارد او التعاون لاستغلالها او التصارع عليها.

الصراع حالة خاصة مؤقتة، ولذا ابتكرت المجتمعات القوانين والتشريعات التي تجنب الصراع، ثم تطور الامر على المستويين الاقليمي والدولي في شكل الاتفاقيات والقوانين الدولية.

ولان الحروب حالة خاصة، يبحث اثناءها زعماء التجمعات الانسانية، في شكلها القديم كقبائل وعشائر، او شكلها الاحدث كدول، عن شرعية تقنع المجتمع بتضحيات الصراع، وهي مهمة يتولاها بعض رجال الدين، باعادة تفسير النصوص بما يبرر دخول الحرب وخوض الصراع.

هنا يبرز التناقض بين المثالي المطلق لجوهر الدين، والتطويع شبه البراغماتي في محاولة اعادة تفصيل تفسير النصوص على مقاس الحدث السياسي المعاصر لتبرير، ما عجزت القيادة السياسية عن اقناع الناس به او لعدم ثقتها في مدى شعبيتها بين الجماهير.

رسالة اي دين في جوهرها الرقي بالفرد ووضعه في اطار روحاني تجعله في حالة سلام وهدوء وطمأنينة نفسية، بمصالحة مزاجه مع البيئة التي يعيش فيها، وبتقديم لائحة من الارشادات تنشر السلام والمحبة وتبادل المنفعة مع الافراد الاخرين والجيران، من اجل خيار الانسانية.

لا توجد عقيدة واحدة، سماوية ( اي من الاديان الابراهيمية الثلاثة بكافة مذاهبها ومللها ) او فلسفية روحانية، لا تمتليء نصوصها بكلمات كالحب، والتسامح، والعفو، والعطف والرحمة وحماية الضعيف والخير والاحسان والتعايش السلمي مع الاخرين.

خطاب الملك عبدالله، المسؤول عن حماية اقدس مقدسات المسلمين، لم يشمل دعوة دينية المحتوى، بقدر ما كان انساني المحتوى يركز على حاجات الانسان الاساسية والتعرف على العوامل المشتركة التي تقارب بين البشر.

وهذا الجديد ليس في مبادرة خادم الحرمين فحسب، بل في جوهر فلسفته المبنية على التسامح وقبول الاخر والتعايش السلمي (وللتذكير: الم يكن عبدالله بن عبدالعزيز، هو صاحب مبادرة السلام الشاملة لبلدان الجامعة العربية كلها مع اسرائيل عندما كان وليا لعهد المملكة؟).

وقول خادم الحرمين ان الاسلام دين الوسطية والاعتدال والتسامح، جاء تذكيرا بما هو معروف، لكنه اتخذ موقفا صريحا ضد التطرف بكافة اشكاله في قوله المباشر ان «المآسي التي مرت بتاريخ البشر، لم تكن بسبب الاديان» وإنما بسبب التطرف الذي ابتلي به اتباع الاديان.

وكطبيب حكيم وضع يده على سبب فشل الحوارات في الماضي، لانها تحولت الى تراشق يركز على الفوارق ويضخمها، مما وصفه بمجهود عقيم «يزيد من التوترات ولا يخفف من حدتها»، وقارن عقم هذا المجهود ايضا بمحاولات صهر الاديان، لانها تناقض جوهر احترام حق الاخرين في التمسك بجوهر وتفاصيل عقائدهم؛ وقدم وصفة النجاح بالتوجه الى القواسم المشتركة التي تجمع بين البشر على اختلاف اديانهم.

الملاحظ ان مبادرة خادم الحرمين، اغلقت مدخل الشيطان عبر التفاصيل.

واذا كان جميلا مشهد اتباع الديانات الابراهيمية الثلاث، يشاركون الطعام والدعاء والصلاة للسلام معا بنجاح المهمة العظيمة؛ فالاجمل كان مشهد تواجد ومشاركة اتباع عشرات الديانات والعقائد الاخرى من اركان الدنيا الأربعة، وبازيائهم وملابسهم المختلفة، في مثال واضح لاحتضان مبادرة عبدالله بن عبدالعزيز للبشرية في اسمى اشكالها الروحانية.

وقد تأخر تقديم طعام الغذاء اكثر من ساعة ونصف الساعة عن موعده بسبب اصطفاف كهنة وممثلي الديانات غير الابراهيمية مع رجال الديانات السماوية الثلاث، لمصافحة خادم الحرمين الذي وقف بصبر يصافح الجميع ويستمع بصبر لكل منهم، فكانت رحلة صبر وتحمل، ليست ذهنية فقط، بل ايضا تضع عبئا كبيرا على جسم الانسان.

ويبدو ان القلب الكبير، والايمان العميق، والروح المخلصة للرسالة التي يدعو اليها، منحته هذه القوة الكبيرة لتحمل الضغط على يده ومصافحة قرابة 400 يد بحرارة على مدى ساعة ونصف الساعة، ولم يجلس الملكان لطعامهما الا بعد مصافحة آخر شخص في الطابور.

كثيرا ما يخلط البعض بين الزعامة والقيادة، فرؤساء الدول والحكومات زعماء Leaders لكن ليس كل زعيم بقائد لمهمة تاريخية بالمعنى الديناميكي Pioneering Leadership اي انه يسبق الشعب ويكون طليعته.

فالزعيم السياسي العادي، «يفصل» سياسته على مقاس الناخب والرأي العام، وربما يزيد المقاس نصف درجة فقط تسمح بنمو الرأي العام اذا زاد وزنه، لكنه لا يجرؤ على تقديم زي جديد قد لا يستسيغه الرأي العام.

اما القائد الطليعي، فيقدم افكارا جديدة واستراتيجية يسبق فيها السياسة المعاصرة بمراحل لم تفكر فيها التيارات السياسية الشعبية بعد، بشكل يراه الزعيم السياسي مجازفة مع الرأي العام.

القائد، الواثق من سمو الرسالة التي يدعو اليها يوظف حب الشعب له وثقته بقدرته على القيادة فيطمئن الشعب لسلامة وصول السفينة حتى لو اوغل تبحرها في مياه غير مرسومة على الخرائط المألوفة للعالم.

مبادرة الربان عبدالله بن عبدالعزيز ووضوح رؤيته الاستراتيجية لشكل الحوار الشامل الذي لا يستثني اية عقيدة او دين، ستقدم للعالم خرائط جديدة ترشد السفن الاتية بعد سفينته الطليعة الى بر عالم جديد من سلام آمن، بعد دفع رياح التسامح والتعايش السلمي اشرعتها نحو عصر انساني افضل.