نحو بنية فكرية مستدامة

TT

واجهت الدولة السعودية منذ تأسيسها تحديات كبرى، ولازالت تلك التحديات متواصلة، وأبرزها القدرة على استيعاب مفاهيم ووسائل العصر مع المحافظة على الثوابت والمكاسب التنموية، في عالم يعجُ بالمتغيرات المتسارعة في المجالات الثقافية والاجتماعية وغيرها. لذا ستبقى آليات التواصل المتزن، وحسن التأثير على الذهنية المختلفة، هي الطريق لكسب هذا التحدي، بعيداً عن الرفض أو التمييع من طرفي النقيض. يمثل التطرف الفكري العقبة الكبرى أمام التواصل البناء، وهو على طرفي نقيض: طرف يقبع في أقصى اليمين، وطرف بالغ في الميل نحو اليسار. وبينهما أغلبية معتدلة صامتة حائرة، يتجاذبها الطرفان.

طرف ديني متشدد، يطعن في الشرعية الدينية للدولة، يبدأ تطرفاً فكرياً وينتهي إرهاباً مسلحاً. يعمل على إسقاط الدولة وإضعاف السلطة الدينية وتسمية رجالاتها بعلماء السلطة، وتعطيل مسيرة التنمية بل استهداف مواردها المادية والبشرية. ولهذا النوع من التطرف منحيان: أحدهما مبني على مفاهيم سياسية صرفة، استخدمت النص الديني استخداماً مشوهاً، فنظًرت وأفتت بغير علم حول بعض المفاهيم، كالتكفير والجهاد والحاكمية.. ولم تستطع التعامل مع قواعد الشريعة وثوابتها، فنتج عن ذلك فكر منحرف خارج عن الضوابط الدينية والأخلاقية. المنحى الثاني: تطرف ديني متشدد مبني على أساس هش، يستخدم العاطفة الدينية استخداماً منفلتاً، يدفع نحو التهور في معالجة ما يرونه من أخطاء، وهذه الفئة تقوم بالجانب التطبيقي للتنظير الذي يؤطِره أصحاب المنحى الأول. وغالباً ما تكون هذه الفئة متذبذبة وبسيطة في التفكير، لذلك لا تستوعب الرسائل التي تدعو للتسامح والوسطية وغيرها. أما الطرف الثاني الذي مال إلى اليسار فيتمثل في التوجه الليبرالي المتحرر، الذي يطعن أيضاً في شرعية الدولة، وفي العلماء ويتهمهم بالتخلف، ويشكك في الثوابت السياسية والاجتماعية من منظور غربي بحت، كغياب الديمقراطية والحريات ونحو ذلك. وهو أيضاً على منحيين: أحدهما يتمثل في المنفتحين على الثقافة الغربية، الذين أعجبوا بها حد الذوبان. لذلك يسعون إلى فرض النموذج الغربي بحذافيره والتنظير له، دون أي اعتبار للخصوصية الدينية، والظروف السياسية والاجتماعية التي تميز المجتمع السعودي المسلم عن المجتمعات الغربية. المنحى الثاني: تطرف متحرر مبني على أساس هش، وغير مُطلع على الثقافة الغربية اطلاعاً معمقاً، فتجده يردد المصطلحات الغربية بجرأة وبطريقة عشوائية سطحية مستفزة للرأي العام المحافظ. وأحياناً يوقعهم طرحهم السطحي في تذبذب محرج أو رؤية متناقضة. وهذه الفئة أيضاً هي أداة في يد المنظرين للتوجه المتحرر، يستخدمونهم في نشر أفكارهم التي تحدث تذبذبات في المجتمع وتهز استقراره الفكري.

لقد استطاعت السعودية خلال العقود الماضية أن تحقق تقدماً تنموياً كبيراًً، مما جعل على عاتقها مسؤولية ضخمة في المحافظة عليها في الحاضر والمستقبل، وتشكل الذهنية المستنزفة المتذبذبة أكبر خطر يهدد تلك المكتسبات. وما حدث من ازدهار اقتصادي وعلمي أسهم بالفعل في تحسين مستوى الملايين من المواطنين، وفتح العالم أمامهم، لكنه زاد من الضغوط وأصبح المجتمع أكثر عرضة للمشكلات والاختراقات الفكرية، مما يجعل الاهتمام بالتنمية الاقتصاديه لم يعد هو الهدف الوحيد.

فالاستقرار الفكري لا بد أن يُنظَر له أيضاً على أنه هدف تنموي استراتيجي، بل هو الهدف الأساس للتنمية لما يحققه من أصالة ورسوخ في الثوابت الدينية والسياسية والاجتماعية والمحافظة على الهوية الوطنية. وهذا الهدف هو الأمل بعد الله في المحافظة على المكتسبات واستمرار التنمية الشاملة. فإذا أخذت التنمية الفكرية البعد الزمني في الاعتبار، وسعت لأن تكون طويلة الأجل، واعتمدت على دراسة الحاضر والتنبؤ بما يمكن أن يحصل في المستقبل، من خلال دراسات معمقة للبيئة المحلية بمكوناتها المختلفة من سياسية، دينية، اجتماعية، اقتصادية، مع الانفتاح بثقة على كافة الحضارات وما تحمله من مفاهيم للتلاقح المفيد معها، فإنها بإذن الله ستحافظ على ما تم تحقيقه من تقدم وازدهار.

التنمية الشاملة لا بد لها أن تلبي للأجيال الحاضرة والقادمة الحاجات الأساسية من سكن وغذاء وعمل وخدمات صحية. فالإنسان يسعى لتحقيق حياة أفضل له ولأبنائه. إلا أن ملامح ذلك البناء ستظل في غموض ما لم تتوفر معها البنية الفكرية السليمة اللازمة للاستقرار الفكري. لتقديم ما أمكن من إجابات مقنعة للأجيال الشابة عما يدور في عقولهم من تساؤلات فرضتها التحولات المتسارعة وعلى كافة الصعد، لكي لا يبحثون لدى الغير عن إجابات تشفي تساؤلاتهم، فتستغل الدول المتربصة والجماعات المؤدلجة ذلك التذبذب الفكري وعدم الوضوح في الرؤية. وهذه الثغرة هي التي دخلت من خلالها الجماعات التكفيرية والسياسية لتجنيد أتباعها مستغلة في ذلك تطور وسائل الاتصال وصعوبة السيطرة عليها. من هنا تبرز الحاجة إلى توسيع نطاق السياسات الخاصة بمكافحة التطرف الفكري، بأن تُطرح الفرضيات والسبل الجديدة في ذلك، ولا يُكتفى فقط بمناصحة، وإلقاء خطبة ومحاضرة، وإبداء نصيحة وكتابة مقال. بل لا بد من عمل مؤسسي يشترك فيه علماء الشريعة، والاجتماع، وعلم النفس، والاقتصاد، والسياسة، والإعلام، والتعليم وغيرها من العلوم، للخروج بخارطة طريق لبنية فكرية مستدامة أساسها ومنطلقها عقيدة صحيحة، وميدانها حوار موسع مع كل الأطراف والأفكار القابلة للحوار. فالدين والوطن يسعان الجميع ولا يمكن لفئة أن تحتكر لنفسها الترويج للتطور والتحديث وتملي دروساً في الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان أو أن تخرج بين فينة وأخرى جماعات تفسر الدين وفق رؤيتها الفكرية الضيقة الداعية للعزلة والكراهية. وكلاهما يدعي امتلاكه للحقيقة.

وهذه البنية الفكرية المستدامة تنبثق من البيئة المحلية وقيمها، ركيزتها تأصيل شرعي لكافة المفاهيم كالتكفير والجهاد والحاكمية أو حقوق الإنسان والحريات، والشورى وغيرها من مفاهيم تنموية مساندة ومعززة لتلك البنية، كقيم العمل والإنتاج، واحترام الوقت، والمنافسة والإبداع، ليكون مشروع التأصيل هذا هو الدليل الاسترشادي لخارطة الطريق تلك لتشكيل إطار البنية الفكرية المستدامة المنشودة. الوصول لبنية فكرية مستدامة من خلال خارطة الطريق تلك والمحافظة عليها فرض ضرورة لتحقيق الاستقرار الفكري في ظل أنظمة شرعية جزائية تجرم الخروج عن إطار تلك البنية الفكرية المستدامة.

[email protected]