كوستا ديل «زول»

TT

السودان بلد يحبه العرب، وأستطيع القول إنه البلد الوحيد الذي ينال محبة العرب بالإجماع. والشعب السوداني بالعموم يجمع الكثيرون على طيبته المتناهية وروحه السمحة. وبرزت عبر السنوات الكثيرة الماضية نماذج ونجاحات مهمة ومبهرة للسودانيين في شتى المجالات والأصعدة، من طب وعلوم وقضاء واقتصاد وأعمال. السودان كان سباقا في التعليم وتألق وبقوة في مجالات مختلفة، وكان سباقا في الحراك السياسي السوي، فأشرك عناصر المجتمع بشكل متوازن بعد الاستقلال، ولكن شيئا ما حدث ليغير هذه الصورة الجمالية إلى مأساة متنامية. بعد وصول العسكر إلى سدة الحكم، وتحديدا فترة جعفر النميري، بدأ السودان السير تدريجيا ومن ثم بسرعة في الاسم الذي أطلقه عليه وزير خارجيته الأسبق منصور خالد «النفق المظلم». ففترة نميري تكرست فيها عمليات تغيير وجهة الحكم، فتارة باتجاه المعسكر الشيوعي الاشتراكي وكان «الرفيق» جعفر النميري، ثم تطوع وأطلق أحكام الشريعة بين ليلة وضحاها ولم يراع فيها التوازن الدقيق لبلد مثل السودان المليء بالأعراق والأديان، فأثار مخاوف الأقليات الأخرى التي بدأت تقاوم حكمه بالسلاح، ولكن النميري كان يرغب في ركوب الموجة الأصولية المتزايدة. السودان شهد حراكا إيجابيا بعد استقلاله عن بريطانيا بقيادة زعيم وطني هو الأزهري، الذي سرعان ما انقلب عليه العسكري عبود، ولكن إرادة الشعب كانت الأقوى فأعادت الأزهري من جديد لاحقا، ولكن لعنة العسكر عادت تلاحق الأزهري فانقلب عليه النميري، الذي ذاق وتجرع مرارة نفس الكأس، حين أطاح به عبد الرحمن سوار الذهب، ودخل التاريخ السياسي من أوسع أبوابه حين وعد وسلم الحكم للمدنيين وتحديدا للصادق المهدي بعد الانتخابات النظامية التي أجريت بالبلاد وبنجاح بالغ، ولكن العسكر جاءوا إلى السلطة من جديد في السودان ووصلوا للحكم بواجهة عسكرية ولكن بباطن أصولي يقوده حسن الترابي، وبدأت حركة الإنقاذ تعيد ترتيب الجيش وكل المناصب التعليمية وتعين مؤيديها، وتحولت معظم هذه الهيئات للمحاسيب والأنصار وبامتياز.. وحدث الخلل في التوازن الاجتماعي وبات الثراء الجديد محسوبا على ثورة الإنقاذ، وظهرت مجاميع جديدة تتحكم في ثروات وسياسات السودان: خلطة سحرية بين المال والدين والعسكر، ولكنها دعمت أيضا بواقع مناطقي وقبلي، مورست من خلاله طبقية جعلت البلاد منقسمة.. وكل ذلك كان محميا (بشكل عملي وجميل) من خلال الغطاء الديني المناسب. ما حدث في السودان من تجاوزات وممارسات بحق بعض مواطنيه، وتم غض النظر عنها لسنوات طويلة هو أمر غير مقبول. ومع الاعتراف بأنه ليس ظاهرة سودانية فريدة وحصرية، إلا أن ذلك كان أساسا ضد طبيعة الشخصية السودانية.

الرئيس السوداني عمر البشير كان من الممكن أن يكون لحكمه امتياز استثنائي لو كان الاهتمام بالثروة الاجتماعية في السودان قدر اهتمامه بالثروة النفطية الجديدة، لأن السودان من دون هذا الخليط المميز من أبنائه لن يكون سودانا كما يعرفه الناس وهنا بيت القصيد.

[email protected]