سلمت يداه وشفتاه!

TT

خطفت رجلي إلى باريس. أو خطفتني باريس. أو وجدتني في باريس ولم أجد أحداً ولا شيئاً. الهواء قد مسح الكلمات من المحلات وابتلع الضوضاء. وغسل الوجوه. فلم تعد هناك معالم لشيء. عادت الدنيا عجينة أو شوربة كما يقول علماء الفلك. وهي في انتظار أن يقول لها الله: كوني فتكون.. وقال لها الله فعادت الكلمات واستعادت المعاني وتمددت الوجوه والبيوت والشوارع والجميلات فماذا حدث؟ لا شيء إلا أنني لم أجد نوافذ إحساس. فقد انغلق الباب على الكلام والشباك على المعاني وانسدت خزائن التفكير. شيء ما قد أعدمني فأعدمت الوجود حولي. وظهرت باريس وقالت باريس: هيئت لك.. وانتظرت أوامري ورغباتي. فكل شيء يقول: شبيك لبيك عبدك بين يديك. ولكن ليس عندي ما أقوله. فالذي أريد أتفه كثيراً ًجداً من هذه الأبهة. أريد غرفة في أي فندق وسريراً في أي مستشفى. والباقي على الله: أن آكل وأشرب ولا أقول: آه وليس هذا على الله بكثير وأحسست بقوة في يدي.. ودفئا ولمسا..إنها يد صديقة: أين أنت؟ وماذا تعمل؟ وما الذي صار إليه حالك. ومنذ متى؟ وأين ذهبت الألوان في وجهك، والأصوات في حلقك، والعين الجريئة والنظرة البريئة!

أقول؟ لم أقل. لا أحد يساوي أن تتوجع أمامه. ولا أحد سوف يقاسمك ما تعانيه. فالألم شخصي كما أن المرض شخصي والموت أيضاً. أقول؟ لم أقل. ولن أقول..

ونزلت الأمطار. لم تطفئ ظمأ ولا جوعا ولا رغبة في شيء.. والتوى الطريق واستدرجني إلى إحدى المكتبات.

وفي صحبة الكتب وجدت نفسي وراحتي وخيبة أملي في كل شيء. لقد ضاع كل شيء: ضاع مني وضعت منه. هل ظلمني أحد؟ لا أحد. وحتى لو ظلمني سحقني قتلني أو أعدمني.. فلا أملك إلا أن أقول ما قال شاعرنا القديم:

* مولاي وروحي في يده

ـ قد ضيعها سلمت يده

ـ بل سلمت يداه وشفتاه!