أضواء على إشكالية القرن الحادي والعشرين

TT

ظهر مؤخراً للرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر كتاب بعنوان «قيمنا المعرضة للخطر.. أزمة أمريكا الأخلاقية»، وصدر أيضاً في ترجمة عربية عن دار «العبيكان» في الرياض.

وينطلق الكاتب من فهمه المشترك مع المحافظين الجدد بأنّ أمريكا تصون المعايير الأخلاقية والسلوكية، بينما يختلف معهم في أنّ محاربة الإرهاب والحروب الاستباقية التي شنّوها بتلك الذريعة تعزّز من دور أمريكا القيمي والأخلاقي. وينتقد كارتر في السياق الإساءة إلى السجناء والمعتقلين واحتجاز الأبرياء الذين لم يسبق لأحد منهم أن أدين بأيّ جريمة ورفض محاكمتهم أو إعطائهم حقوقهم القانونية. ويتساءل كارتر ما إذا كان من واجب الولايات المتحدة أن تكون المثل والقدوة في التخلي عن الطاقة النووية أم أن تستبقي وتوسّع ترسانتها وتمنع الآخرين من حقّ مماثل. كما يتساءل ما إذا كان من الأفضل تبنّي سياسة حقيقية لصنع السلام في العالم أم اعتبار من ليس معنا أنه ضدّنا واعتبار أولئك الذين يختلفون معنا منبوذين دولياً!

وأسئلة كارتر هذه هي أسئلة رئيس سابق خدم بلاده، بالاتفاق أو الاختلاف مع منظومة القيم الأخلاقية التي يتحدث عنها، وأصبح بإمكانه أن يكتب عن فلسفة منظومة القيم الأخلاقية الأمريكية طالما أنه لم يعد مسؤولاً عن سياسات عملية على الأرض. وليست مجازفة القول إنّ معظم الساسة الأمريكيين أقدر على قول ما ينسجم مع مواقفهم الأخلاقية الصحيحة بعد أن يغادروا مكاتبهم، وهذا بحدّ ذاته يشكّل أزمة أخلاقية لدولة عظمى تؤثّر سياساتها على حياة ومصير البشر في جميع أنحاء الكون. وينطبق هذا الأمر على ساسة آخرين، طبعاً، في أنحاء مختلفة من العالم! ولكن لأن السياسة الأمريكية ذات أثر فعّال في الأمم المتحدة ومجلس الأمن وفي الحروب الاستباقية وغيرها، التي تشنّها ضدّ الدول، فمن الطبيعي أن نولي اهتماماً أكبر لهذه السياسات نتيجة آثارها المباشرة علينا رغم المحيطات الشاسعة التي تفصل بين بلداننا. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد أطلق رئيس الوزراء الهولندي الأسبق أندرياس فان إخت موقعاً على الانترنت يتهم فيه إسرائيل بمعاملة الفلسطينيين بوحشية وبانتهاك القانون الدولي وتنفيذ سياسات عنصرية، كما أنه يعدّ كتاباً ينتقد فيه إسرائيل ويتهمها بالإرهاب. وقال فان إخت «تصرفت بدافع خجلي لأنني لم أدافع عن الفلسطينيين حين كنت في السلطة وبسبب التجربة التي اكتسبتها عندما زرت الأراضي المحتلة في الماضي القريب»، كما اعترف كولن باول ومارك ماكورماك، الناطق السابق باسم البيت الأبيض، بأن الحملة التي تبنّياها ودافعا عنها حول أسلحة الدمار الشامل العراقية كانت حملة مضلِّلة اعتمدت الأكاذيب والافتراءات ولم تستند إلى الحقائق.

ولكنّ السؤال الذي أودّ أن أطرحه بصدد التبنّي الأخلاقي المتأخر للقضايا العادلة هو هل هناك فعلاً منظومة أخلاقية لصنّاع السياسة في الولايات المتحدة، أم أنّ المبادئ التي اعتمدها دستور الولايات المتحدة ومبادئ الثورة الفرنسية ككلّ المبادئ الدينية والسياسية الأخلاقية منفصلة تماماً عن الممارسات السياسية التي تتحكم فيها المصالح ومنطق القوة والسيطرة والاستعمار ونهب الثروات؟ وهل من الحكمة اليوم أن تركن الشعوب المستضعفة إلى «أخلاقيات» الدول الكبرى، وتنتظر الالتزام بهذه الأخلاقيات أو تنتقد الابتعاد عنها، حتى وإن اتصفت الحروب بمنطق مغاير تماماً على مرّ السنوات؟ بكلمات أخرى، هل من الحكمة اليوم الافتراض أن سياسات الهيمنة في العالم تعير أيّ اهتمام لمنظومة القيم الأخلاقية التقليدية من العدل والحرية وحقوق الإنسان، أم أنّ هذه القيم تشكّل غطاء لاستخدامه وقت الحاجة للتغطية على أعمال عدوانية شريرة؟ الملاحظ هو أنّ الدول المعتدية تحاول اليوم أن تجد مخرجاً لربط اعتداءاتها بمبرّرات «أخلاقية»، وأيضاً على سبيل المثال لا الحصر هنا حاولت «إسرائيل» التي تعتدي يومياً على السكان الأصليين الواقعين تحت احتلالها العسكري البغيض أن تضفي على صفقة تبادل الأسرى مع حزب الله معنىً أخلاقياً بحيث أطلقت أولاً اسم «التفوق الأخلاقي» على عملية تبادل الأسرى مع حزب الله ولكنها عادت وغيّرت الاسم بسرعة إلى «وعاد الأبناء» بعد تعرّضها لانتقادات شديدة، ولتجنّب المزيد من الانتقادات التي تسلّط الأضواء على تناقض هذه التسمية مع كلّ الممارسات الإجرامية المعروفة لهذا الكيان المعتدي. ولكنّ إطلاق اسم دعائي «أخلاقي» على عملية التبادل يشير إلى خواء أخلاقي يدركه بعمق صانعو السياسات العدوانية اللاهثون وراء أيّ غطاء أخلاقي لما يقومون به من جرائم.

ثلاثة أحداث على الساحة الدولية حدثت مؤخراً قد تساعد في إلقاء الضوء على إشكالية علاقة منظومة القيم الأخلاقية بالممارسات السياسية التي نشهدها اليوم. الحدث الأول هو الفيتو المزدوج الذي استعملته الصين وروسيا ضدّ قرار أمريكي في مجلس الأمن كان يهدف إلى إدانة رئيس زيمبابوي، روبرت موغابي، وهذه هي المرة الأولى التي تتحدى فيها الصين وروسيا الأحكام السياسية والاقتصادية التي تطلقها الولايات المتحدة بسخاء على حاكم هنا وحاكم هناك، وبلد هنا وآخر هناك. والملاحظ هو أنه بعد هذا الفيتو المزدوج لم تعمد الولايات المتحدة إلى إيجاد سبل أخرى لإنقاذ شعب زيمبابوي، كما كان الإدعاء بأنّ هذا هو هدف مشروع القرار المقدّم إلى مجلس الأمن!!

الحدث الثاني هو تبادل الأسرى بين «إسرائيل» وحزب الله، والذي برهن دون أدنى شكّ أنّ هذا التبادل هو نتيجة صراع قوي، ونتيجة انتصار المقاومة في لبنان عام 2006، ولا علاقة له بمنظومة قيم أخلاقية أو بحرص إسرائيل، أو حتى استعدادها، لأخذ أيّ اعتبار لحقوق الإنسان، الأمر الذي يقنع غالبية لا بأس بها في عالم المستضعفين والمقهورين أنّ المقاومة هي الطريق الأقصر لتحرير الأرض وتحرير الأسرى، وأنّ الثبات والصمود على المبادئ يؤتي أكله كما فعل دائماً. والبرهان على ذلك هو أنه هناك أحد عشر ألف وخمسمائة مخطوف ومخطوفة فلسطينيين في سجون الاحتلال بينهم مئات النساء والأطفال وعشرات أعضاء البرلمان والوزراء المنتخبون، ومن بينهم عزيز الدويك، رئيس مجلس الشعب الفلسطيني المنتخب ولا أوهام هنا بأنّ «إسرائيل» لن تطلق سراحهم لاعتبارات «أخلاقية» لأنها لم تحتجزهم لأسباب أخلاقية، أو حتى عادلة، بل لأسباب كولونيالية احتلالية مدمّرة، تهدف إلى اقتلاع السكان الأصليين من ديارهم وزرع المستوطنين المعتدين مكانهم.

والحدث الثالث هو قرار المحكمة الدولية بإلقاء القبض على رئيس جمهورية تتمتع بحصانة القانون الدوليّ في مثال لا سابقة له، وكأنّ رئيس الولايات المتحدة والذي شنّ حرباً على العراق وأفغانستان والصومال وتسبب في قتل وتهجير الملايين ليس مسؤولاً عن نتائج أعماله، أم أنّ القوانين في المحكمة الدولية وقرارات مجلس الأمن ذات اتجاه واحد من القوى العظمى إلى دول العالم الثالث الفقيرة والمستضعفة، وكأنّ حكام إسرائيل لم يتسببوا في إبادة جماعية للستين عاماً الماضية. لا يقصد من الكلام هذا تبرير أي عمل يشكل اعتداء على كرامة وحياة وحرية الإنسان، ولكنّ السؤال هو هل المعايير واحدة، وهل الدم الذي يجري في عروق البشر هو دم واحد أم أن هناك الدم الأحمر والأزرق والأصفر، وكلٌّ له ثمنه وحسابه؟ ما تُريه هذه الأحداث المختارة، وأخرى مشابهة لا يتّسع المجال لذكرها هنا، هو أنّ الولايات المتحدة والقوى الأخرى المؤثرة على الساحة الدولية لا تقيم الاعتبار الأول في سياساتها لمنظومة القيم الأخلاقية المنصوص عليها في دساتيرها وقوانينها. وقد نكون نشهد اليوم، خاصّة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، الذريعة التي استخدمت لشنّ الحروب الاستباقية وما تمت تسميته بـ «الحرب على الإرهاب»، والقوانين العنصرية بحقّ العرب في الغرب، قد نكون نشهد اليوم انهيار المنظومات الأخلاقية في العالم، واعتماد أسس القوة والتي لا تخلو من اعتبارات عنصرية يلعب فيها اللون والمكان الجغرافي دوراً في القرارات والقوانين المتخذة. هل فقد مجلس الأمن اليوم والمحكمة الدولية والمؤسسات الأخرى صفة «دولية» أو «إنسانية»، وحلّت محلها صفة أخرى حارب شعب جنوب أفريقيا عقوداً لإلغائها من دستوره! لا أريد حتى تسميتها لأنها مرعبة لمستقبل البشرية، وهل تشكّل العودة الفعلية لهذه الصفة في الشرق والغرب التحدي الأعظم لساسة وشعوب القرن الحادي والعشرين؟

www.bouthainashaaban.com