الإعراب عن التقدير لفكرة طيبة

TT

أستأذن القراء السماح لي بإبداء الحنين للماضي والعودة إليه للحظات، وتحديداً إلى اللحظة التي شهدت فيها بداية ظهور مبادرات تقوم على أساس الإيمان الديني.

كان ذلك أثناء ذروة جينجريتش عام 1994. وقتها ساد الاعتقاد لدى عدد ضئيل من أعضاء الحزب الجمهوري المتميزين بنفاذ بصيرتهم، بما فيهم السيناتور دان كواتس عن ولاية إنديانا، أن اتباع نهج مناهض للحكومة فحسب سيأتي متسماً بقصور أخلاقي وستترتب عليه نتائج سلبية عكسية. وكانت لدى هذا الفريق قناعة بأن الحزب الذي يفتقر إلى أمل يقدمه فيما يتعلق بتناول قضية إدمان المخدرات أو إلى الشباب الذي يعاني من وطأة ظروف مادية عصيبة أو من التشرد، لن يبقى في الحكم طويلا. في شبابي، عملت مع الفريق التشريعي المعاون لكواتس بشأن حزمة من التشريعات الداعية لبناء منظمات خيرية تقوم على أساس الإيمان الديني. من جانبها، أنصتت قيادة الحزب الجمهوري بأدب إلى آرائنا وأفكارنا، تماماً مثلما ينصت المرء إلى رجل كبير مخبول. أما إدارة «كلينتون» ففعلت أكثر من مجرد الإنصات، ذلك أنه بحلول عام 1999، دعا آل جور نائب الرئيس إلى إقامة «شراكة جديدة» بين الحكومة والمنظمات القائمة على أساس الإيمان الديني، لكن حاكم تكساس، «جورج دبليو. بوش»، هو الذي اعتنق الفكرة تماماً باعتبارها محور حركة محافظة تدعو للرحمة.

لذا، جاء إعلان باراك أوباما الأخير عن «مشروع جديد للإحياء الأميركي» من شأنه «تمكين المنظمات القائمة على أساس الإيمان الديني» ليثير ذكريات خاصة بداخلي. بصورة عامة، يجري تقييم مدى قوة فكرة سياسية ما على أساس مدى التأثير الذي تتركه على الطرف الآخر. وبناءً على هذا المعيار، يمكن القول بأن مبادرة المنظمات القائمة على الإيمان الديني باتت تشكل ملمحاً دائماً من ملامح الحياة الأميركية. وبمجرد إعلانه عن اقتراحه، نجح أوباما في اجتذاب المؤيدين المناسبين، ومن بينهم جون ديلوليو، أحد أكثر العناصر المحافظة شعوراً بالمسؤولية من الإدارة الأولى لبوش. بيد أنه في الوقت ذاته أثار انتقادات من جانب البعض، لكن المؤكد أنه عندما يصرح باري لين عضو منظمة «الأميركيين المتحدين من أجل الفصل بين الدولة والكنيسة» بأنه يشعر بـ«خيبة الأمل»، فإن ذلك يعد مؤشراً على أن أوباما يتحرك في الاتجاه الصحيح.

من وجهة نظري، أعتقد أن أوباما قدم لنفسه ولبلاده خدمة جليلة بإصداره هذا الإعلان وذكرنا جميعاً بسبب انجذابنا إليه كشخصية سياسية منذ البداية. في إطار خطابه، أكد أوباما ـ وهو مرشح ديمقراطي وبروفسور متخصص في الدستور ـ على الالتزام الفكري الجوهري بإصلاح نظام الرفاهية القائم على أساس الإيمان الديني، مشدداً على أن الحكومة بمقدورها دعم العمل الاجتماعي للجماعات الطائفية داخل الحدود التي يقتضيها التعديل الأول. واستطرد موضحاً أن ذلك لا يمثل خطوة ملائمة فحسب، وإنما ضرورية لأن بعض المشكلات «تبلغ من الضخامة ما يجعل الحكومة وحدها عاجزة عن حلها». وعليه، تعهد أوباما بالإبقاء على مكتب شؤون المنظمات الدينية داخل البيت الأبيض وتشجيع المنظمات الخيرية الدينية الكبرى على تقديم المساعدة الفنية إلى المنظمات الأصغر فيما يخص الحصول على تمويل حكومي، وبذل جهود جديدة على صعيد تنفيذ برامج تعليم صيفية للأطفال المعوزين.

وبالتأكيد شعر أوباما بحاجة سياسية لعقد مقارنة بين توجهه والسنوات الثماني السابقة، حيث قال إن جهود بوش «عانت دوماً من نقص التمويل» ـ وهو اتهام يصعب دحضه. وأضاف أن هذه الجهود «جرى استغلالها في تعزيز مصالح حزبية» ـ وهو اتهام ظالم. إلا أن أوباما اتسم بالغموض إزاء قضية سياسات التوظيف التي ستنتهجها مثل هذه المنظمات، لكن على ما يبدو أنه أصدر وعداً بالسماح للمؤسسات الدينية الراعية بانتقاء الموظفين بناءً على معتقداتهم، وفي الوقت ذاته حرمان المؤسسات التابعة لها والمعنية بالخدمات الاجتماعية. وبصورة عامة يمكن القول بأن الكثير من الإصلاحات التي اقترحها أوباما تشكل وصفاً دقيقاً للسياسات الراهنة التي تنتهجها إدارة بوش الحالية.

بيد أن محاولات أوباما تصوير مبادرة المنظمات القائمة على الإيمان الديني باعتبارها تخصه تعد بمثابة شهادة تقدير للفكرة في حد ذاتها، ذلك أنه ليس هناك أي سياسي يعمد إلى اقتراض فشل ونسبه إلى نفسه. ويعتبر المقترح الذي أعلنه أوباما مؤشراً على النضج السياسي، ذلك أنه يأتي بمثابة رفض للفكرة الحمقاء التي ترى أن كل ما يرتبط ببوش معيب ومن المتعذر إصلاحه. ومن الواضح أنها خطوة تتميز بالذكاء السياسي، ذلك أنها تعمد إلى اجتذاب الإنجيليين. لكن الاقتراح يحمل ميزة أخرى هي صدقه الواضح.

وباعتباره سبق له العمل بمجال التنظيم، يتمتع أوباما بخبرة بجغرافية الأمل داخل المدن الأميركية، ويدرك جيداً أن الجمعيات الدينية من المستحيل الاستغناء عنها داخل المناطق البائسة، وأن العلمانية الفجة من شأنها تدمير المؤسسات التي يعتمد عليها الفقراء. كما أنه يدرك أن هذه الجمعيات غالباً ما تتحمل أعباءً جمة وأنها تستحق الدعم العام. وفي خطابه، شرح أوباما أنه: «بينما أجلس في الكنيسة وأدعو بكل ما أريده، لن أكون مضطلعاً بكل أوامر الرب إلا إذا خرجت وقمت بالأعمال التي ترضيه»، وهي عبارة لا يسعنا سوى الترحيب بها وتعتبر نموذجاً طيباً على الاعتدال.

* خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»