«فيلق القدس» الإيراني و«القاعدة» في زورق واحد

TT

شكل فيلق القدس خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية، التي لا زلت أؤمن بأن صدام حسين لم يحسن اختيار طريقة المعالجة في ما سمي «عملية الرد الواسع»، على الرغم من أن مجمل الجهود التي بذلت، أخضعت إيران لقبول قرارات الأمم المتحدة بوقف الحرب بعد رفض استمر نحو ثمانية أعوام. وتأسس هذا الفيلق على قواعد ونظريات الحروب غير النظامية. وربما لم يكن ضيراً في ذلك، طالماً بنيت الفكرة على أساس العمل تجاه عدو كانت تدور معه حرب مباشرة علنية ضروس. ويفترض انتفاء الحاجة اليه وحله بعد انتهاء الحرب. لكن بدلاً من ذلك بدأ الفيلق بتوسيع نشاطاته لتشمل دولاً أخرى، الى أن أصبح ذراعاً للتدخل السافر في شؤون دول أخرى وليس العراق فحسب، وتنفيذه نشاطات تندرج تحت خانة الإرهاب بامتياز، في لبنان وأفغانستان والخليج والعراق بالطبع..، بطريقة وأخرى. وتعتمد فلسفة عمل الفيلق على إقامة علاقات وروابط مع الحركات المسلحة والاحزاب والمنظمات المعارضة لسلطات وحكومات بلادها والمنظمات المسلحة في العالم.

هل عرف في العالم وجود مؤسسة رسمية للتدخل في شؤون الدول الاخرى؟ هذه هي حقيقة الحال في إيران. ومع ذلك، كان بعض السياسيين والعسكريين الأميركيين في مرحلة الحديث (باستحياء) عن التدخل الإيراني في العراق، قبل تصعيد نبرة اللغة ووضوحها، يتساءلون عما إذا كانت نشاطات الفيلق في العراق تجري بعلم القيادة الإيرانية أم من دونه؟ فيما هو مؤسسة منضبطة 100% وتؤمن بطاعة الولي الفقيه، وتعمل وفقاً لتوجيهاته المباشرة، وأحد أبسط الأدلة الكثيرة على ذلك، من يخرج من الحرس برتبة كبيرة يذهب للعمل في مقر المرشد.

من حيث المبدأ، فإن فيلق القدس يتبع قيادة الحرس الثوري، وبمرور الوقت، أصبح ارتباطه الروحي والتنفيذي عضويا بالمرشد الأعلى، ولم تعد لقائد عام الحرس سلطة عليه. ويسيطر الفيلق على عدد من المقرات الفرعية تتوزع على مناطق عدة تتناسب وخطط التدخل في دول الجوار وغيرها، كما له ممثلون بواجهات مختلفة في سفارات دول الاهتمام المباشر، يتولون عملية التنسيق القريب مع المجموعات التي تربطها علاقة بالفيلق، وهؤلاء الممثلون ضباط استخبارات في فيلق القدس ممن لهم تجارب ميدانية واسعة، تعج بهم سفارات دول الاهتمام، أما حصة الخارجية و(الجيش) فتبقى فقيرة. وربما يأتي يوم يجري فيه الدخول في التفاصيل.

أثبتت التحريات التي أجرتها قوات التحالف في العراق ضلوع فيلق القدس بشكل أساسي في تدريب فرق الموت الطائفية التي شاركت «القاعدة» عبثها في أمن العراق، وكان أحدهما يتمم الآخر، وكلاهما يمثل وجهاً من وجهي دائرة المآسي، حتى لو ظهرت حالات تقاطع سلبي وتصادم بينهما، يراد بها خدمة الهدف العام المتمثل في إثارة حرب أهلية وإيقاع أكثر ما يمكن من الخسائر البشرية والمصائب بين العراقيين، بصرف النظر عن الهوية. فالضباط السابقون، شيعة كانوا أم سنة، مطلوبون إيرانياً، وتمت تصفية المئات من كبار الضباط فعلاً. والمعارضون للنفوذ الإيراني من الشيعة بمختلف شرائحهم، مطلوبون إيرانيا. والشيعة والمعارضون لـ«لقاعدة» من السنة مطلوبون لها، والسنة والبعثيون مطلوبون لدى فرق الموت، وقوات التحالف مطلوبة لدى الطرفين.. وهكذا، كل من يقتل يخدم الأهداف التي يعمل من أجلها فيلق القدس، لتعميم الفوضى وتعزيز النفوذ الإيراني وأهدافه بعيدة الأمد. وعلى هذا الهامش قتل من العراقيين عدد لا يحصى، مئات الآلاف، وربما يصعب إحصاؤه مستقبلا، إن لم تتح ظروف ملائمة. فالشيعة والسنة كانوا أهدافاً لعناصر الفيلق والجهات المدعومة من قبله، بما فيهم «القاعدة».

كانوا يتذرعون بأن ما يعثر عليه من أسلحة إيرانية يعود الى حقبة حرب السنوات الثماني، فيما كانت تحمل علامات تدل على حداثة تصنيعها في إيران، من قاذفات صواريخ حديثة لم تكن موجودة أصلاً لدى القوات العراقية والإيرانية، وهاونات.. ولم تكن خلال تلك الحرب ثقافة العبوات الناسفة (المصنعة في إيران) معروفة. ومعظم أنواع الأسلحة كانت تتدفق، ولا يزال بعضها مستمراً، عبر المنافذ الحدودية مع إيران، في وقت كانت فيه قوات التحالف منشغلة في مواجهة نشاطات مسلحة غير عادية، وكانت قوات الأمن العراقية في مراحل تكوينها الأولى. لعل بعض الناس، يشككون في دقة ما قيل عن علاقة «القاعدة» أو بعض أطرافها بفيلق القدس والاطلاعات الإيرانية، بحكم التناقض الفكري والعقائدي. ألم تحجم «القاعدة» عن تنفيذ عملية واحدة في إيران، على الرغم من التهديدات التي كان يطلقها رئيس ما يسمى دولة العراق الإسلامية، لذر الرماد في العيون؟ وأليس «أنصار الإسلام» على علاقة وثيقة بتنظيم «القاعدة» وواجهة لها بشكل وآخر؟ وألا يوجد العديد من مقراتها في كردستان إيران على مقربة من الحدود العراقية؟ وحاول مسؤولون من أكراد العراق حث المسؤولين الإيرانيين على غلقها، عبثاً، وفشلوا رغم الوعود المتكررة إيرانياً. والأكثر من هذا ألم تحتضن إيران عناصر قيادية من «القاعدة»، بأي شكل؟ وألم تقدم مساعدات مالية سخية لفروع «القاعدة» في المناطق الساخنة من العراق لاستهداف ضباط الجيش والسياسيين من السنة؟ الى أن أصبحت «القاعدة» أداة لتنفيذ البرامج الإيرانية، ثأراً من كل من وقف في وجه الاندفاعات الإيرانية خلال عقد الثمانينات. ألم يقدم فيلق القدس أسلحة ومساعدات الى طالبان الوجه الآخر لـ«القاعدة»؟

من حقائق الأمور، إن فيلق القدس والاطلاعات لم يترددا، في استقبال ودعم كل من يستخدم السلاح في دول الاهتمام عموماً والعراق تحديداً، ضد أي طرف إلا استثناءات فردية، بمن في ذلك أشخاص قدموا أنفسهم بأنهم من حزب البعث، والتحقيقات التي أجريت في وزارة الدفاع العراقية عام 2005 أثبتت أن قيادات في «جيش محمد»، الذي أسسه صدام عام 2003 زاروا إيران وتلقوا مساعدات مالية.. وليس معروفا إن ذهبوا بطريقة فردية أم لا، فهم مرحب بهم في إيران حتى إن كانت رؤوسهم مطلوبة في مرحلة أخرى.

إيران دولة مهمة وتزداد أهمية كلما انصهرت في الإطار الأممي، ولا جدال في ذلك، لكن ليس على حساب العالم وخلق الأزمات، حيث ولى زمن التحدي والحسابات الخاطئة، التي لا يمكن أن تحقق هدفاً مشروعاً، ولا غير مشروع على المدى البعيد. فأما آن الأوان ليتخذ المسؤولون الإيرانيون قراراً طبيعيا بإلغاء فيلق القدس كبرهان مادي على التوقف عن التدخل في شؤون الآخرين؟ فخطوة كهذه ستسجل بادرة حسن نية، تشجع ضمن حزمة من الإجراءات، بينها فتح البرامج النووية أمام مفتشي وخبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والمجتمع الدولي للتخلص من وجع الرأس وانصهار إيران مع باقي الأمم؟ أم يبقى الفيلق و«القاعدة» في زورق متهالك في بحر لا يعرف السكون الطويل؟

[email protected]