أكثر من مجرد سعر..

TT

النفط يعود للهدوء وللهبوط من جديد ويواصل النزول إلى مستويات دنيا جديدة بشكل سريع ومتواصل. ومن الواضح أن السبب الأول لهذا التغيير في سعر البترول هو الحراك الإيجابي السلمي والتفاوضي بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين إيران، وذلك بعد أن عينت الحكومة الأمريكية مفاوضا تنفيذيا رئيسيا من وزارة الخارجية الأمريكية ليكون طرفا مع أي مباحثات مع الحكومة الإيرانية، وعرضها لفتح مكتب للشؤون والرعاية الأمريكية في طهران. ولكن هناك سببا آخر مهما بدأت نتائجه في الظهور بنسب وأرقام واضحة. وتحديدا المقصود هنا هو هبوط بيّن وشديد في نسب الاستهلاك الأمريكي للوقود، وذلك من خلال تنفيذ برنامج توفير للنفط بالتقليل من السفر والتنقل، وجمع أكبر عدد من الركاب في وسيلة التنقل الواحدة، وكذلك تقنية وسائل التبريد والتدفئة.

كل هذا الزخم من المرشح أن يتحول إلى سياسات وتشريعات تصب في صميم مصالح «الأمن الوطني الأمريكي» نفسه، ولكن هناك فئات اقتصادية لافتة ومؤسسات مالية ناشئة تستثمر في قطاعات الطاقة البديلة الواعدة (وهو قطاع يشبهه الكثيرون بقطاع «الدوت كوم» الرقمي الذي ازدهر ونما بقوة في فترة التسعينات الميلادية من القرن الماضي). ومن المتوقع أن يلقى هذا القطاع الكثير من الأموال البدائية والتي تبحث عن فرص الاستثمار الجريئة، فهناك العشرات من المشاريع «الخيالية» الواعدة جدا. فبالإضافة لمشاريع استخراج «الزيت» الصالح لوقود السيارات من الصويا ومن الذرة، هناك مشاريع مهمة أخرى تعد باستخراج «بلاستيك» من ألياف الخضرة والفواكه، وكذلك تطور كبير في مجالات الطاقة الشمسية والطاقة الهوائية، وهناك طبعا الحديث الكبير عن السيارات التي تعمل بالطاقة الهيدروجينية أو حتى بالماء.

هناك مخاوف من أن ينضب البترول اقتصاديا (مع ارتفاع سعره) قبل أن ينضب طبيعيا تماما مثلما حدث مع الفحم على سبيل المثال، فهو لا يزال ينتج، بل حتى تم تطويره و«تنظيفه» أيضا مثل التجربة المهمة التي أقدمت عليها جنوب أفريقيا باستخراج «زيت» نفطي من الفحم الذي تستخرجه من أعماق الأرض فيها وإن كان هذا الشيء لم يحدث مثلا في الصين، وهي إحدى أكبر الدول المنتجة للفحم اليوم. هناك صراع خفي (وإن كان بدأ يبدو بارزا الآن) ما بين الدول المنتجة للنفط، وخصوصا الرئيسية منها، وبين الدول والهيئات والمؤسسات المعنية بالطاقة البديلة، وخصوصا أن هناك «زخما» إعلاميا شديد القوة باتجاه تجريم النفط وتحميله كل مشاكل المناخ وأزمات البيئة وكارثة الاحتباس الحراري المشهورة. التجاذب السعري الحاصل اليوم لبرميل النفط هو واقعيا أكثر من مجرد مسألة اقتصادية بحتة معنية بالعرض والطلب، ولكنها قد توضح لنا المسار الاستهلاكي الجديد لسكان الأرض في ما يتعلق بخيار الطاقة المستقبلي. وهناك طبعا علامات كثيرة تثبت أن «الاختيار» الذي ترتضيه الشعوب له أبعاد هائلة على قطاعات غير بسيطة. وليس هناك داعم لذلك القول سوى تذكر آثار طاقة البخار ثم الفحم وبعدها النفط على حياة الإنسان واقتصاده. كم بقي في عمر برميل النفط؟ الإجابة ليست في آبار البترول واحتياطيه ولا في البورصات الدولية، ولكن قد تكون في مختبرات علمية وتشريعات سياسية.

[email protected]