الثابت والمتغيِّر في صراعات المنطقة العربية

TT

لم يبق حيا من الماركسية سوى فلسفة ماركس التي يعتمدها مفكرو وكتّاب اليمين واليسار في تفسير الثابت والمتغير في السياسات والمجتمعات.

الطرافة في الصراع بين النظام العربي الراهن وأنظمة وتنظيمات الإسلام السياسي والحربي ان كلا الجانبين ينتمي الى معسكر اليمين التقليدي، في اعتماده الاقتصاد الرأسمالي الحر، ولا مبالاته بالحرية وآليتها الديمقراطية. هذه المواصفات تنطبق أيضا على النظام الديني «التيوقراطي» في إيران.

كانت ثوابت الصراع العربي، بعد «استقلالات» الأربعينات والخمسينات، محض سياسية. تركز الصراع آنذاك بين العراق الهاشمي ومصر والسعودية على الفوز بسورية. ثم ما لبث الصراع أن تحول آيديولوجيا، إلى صراع بين اليمين المحافظ في الخليج واليسار القومي الناصري الذي فاز مؤقتا بسورية. وانتهى الصراع لصالح اليمين، بعد هزيمة المشروع القومي في حرب النكسة (1967).

منذ أوائل السبعينات، برزت أنظمة شديدة المحلية (سورية، ليبيا، السودان، العراق). رفع معظمها شعارات اليسار الناصري والبعثي، معتمدة عبادة الشخصية والانفتاح الاقتصادي العشوائي. هذه الأنظمة انشغلت بصراعات المراهقة التنافسية بينها، فيما كان نظام اليمين التقليدي في مصر وتونس والخليج يرتكب خطأه الاستراتيجي في محو آثار اليسار القومي، باعتماد المبالغة الميلودرامية في الدروشة الدينية للمجتمعات العربية.

المتغير في الثمانينات والتسعينات هو تحول الصراع بين الأنظمة إلى صراع بين النظام التقليدي والتنظيم الديني والحربي المتسيِّس. حقق النظام العربي نصرا أمنيا مؤزرا على الموجتين الأفغانيتين الأولى والثانية لتنظيم «القاعدة» وما رادفها من تنظيمات مماثلة في مصر والجزائر. لكن النصر الأمني ظل ناقصا، لأن مشايخ الإسلام الحربي ودعاته ما زالوا ناشطين في أدلجة الشباب، وقادرين على تجنيدهم لذبح المجتمعات العربية بحجة جاهليتها.

لا شك أن الإسلام الشيعي (الخميني) ألهم الإسلام الحربي السني بمبدأ «الشهادة الانتحارية». غير ان عمليات «حماس» الانتحارية ألحقت أذى بالغا بالنضال الوطني الفلسطيني. فقد أوصلت دهاقنة اليمين الإسرائيلي (شارون ونيتانياهو وباراك) إلى منصة الحكم في الدولة العبرية.

ما هو الثابت والمتغير في المشهد السياسي العربي في بداية القرن الحادي والعشرين؟

الثابت التاريخي، كي لا أقول. الأَبَدي، هو استمرار الصراعات بين الأنظمة العربية. صراعات بلا مضمون اجتماعي أو وعاء آيديولوجي، لأن كل هذه الأنظمة باتت مُصنَّفة ومحسوبة على اليمين التقليدي، في طلاقها للآيديولوجيا السياسية، وفي اعتناقها الليبرالية الاقتصادية الرأسمالية.

افتح هنا قوسا لأقول ان النظام العسكري الديني في السودان لم يعرف، إلى الآن، كيف يستغل موارد السودان الهائلة في تنمية اقتصادية ورفاهية اجتماعية. دليل الفشل هجرة ملايين السودانيين. ثم انحياز نظام البشير الى المجتمع الرعوي المسلم ضد المجتمع شبه الزراعي المسلم في دارفور. هذا الانحياز الذي لا ينسجم مع عدالة الإسلام هو الذي يلقي بالبشير شخصياً في براثن عدالة دولية تصفح، في ريائها، عن بوش وتعتقل البشير.

لكن النظام العربي، ممثلا بجامعته، يرتكب خطأ فادحا، إذا انحاز تلقائيا للبشير، من دون أن يبصِّره عمرو موسى بمسؤوليته الانسانية والرسمية، تماما كما كانت مجاملة النظام العربي لصدام سببا في تماديه العبثي المتحدي للعالم وأميركا التي أنقذته من براثن إيران. انه البشير الذي وقف في قمة بغداد مناديا صدام: «يا فارس العرب». لم يعتذر البشير قط عندما غدر فارس العرب، بعد أسابيع قليلة، بعرب الكويت والخليج.

المتحول والمتغير الجديد في المنطقة العربية هو الصراع بين اليمين الرسمي العربي واليمين الديني الإيراني. يبدو النظام التيوقراطي الإيراني في هجمته المتجددة على العرب أكثر قدرة على المبادرة والمناورة والدعاية لانتصارات ومكاسب تكتيكية جزئية.

شكراً لله. لم يتنبه، بعد، نظام «الآيات» إلى أن مواجهته العصفورية مع أميركا وإسرائيل تبقى مفرغة من أي مضمون اجتماعي. لا مقاومة حقيقية بلا محتوى اقتصادي تنموي. لا جهاد استشهادي قبل مصالحة الإسلام مع الحرية والديمقراطية.

ابتذال المقاومة الجماعية في تحقيق مكاسب جزئية، كتحرير حفنة من الأسرى واستعادة هياكل عظمية لشهداء وأبطال المقاومة، لا يمكن إدراجه في مسار مقاومة جماعية جادة للتحرر من الاحتلال. المبالغة في الاحتفال تندرج في إطار الدعاية لإيران و«الحزب الإلهي»، وإلهاء النظام اللبناني والحكومة والأحزاب والقوى السياسية عن مطلبها بسحب سلاح الطائفة، بعدما أصبح مهدداً للديمقراطية الهشة لنظام الطوائف، وللسلام المرئي في المجتمع اللبناني.

جمهورية النظام العربي حالت إلى الآن دون استغلال هزيمة الآيديولوجيا «القاعدية» في العراق. سقطت محاولة «القاعدة» إقام نظام «طالباني» في غاية الانغلاق والتزمت. «صحوة» السنة أثبتت استحالة قيام دولة دينية متزمتة في المجتمع العربي. كانت «صحوة» السنة المتغير الاستراتيجي في الحرب. فقد أنقذت أميركا من الهزيمة أمام فلول صدام وحلفها مع «القاعدة».

اعتمدت الآيديولوجيا الدينية الإيرانية أساليب وأدوات دعائية ومالية ناجحة: تم شراء ولاء الشيعة العربية في العراق ولبنان، وربما في الخليج. تم اختراق المحور العربي الثلاثي الفضفاض، بسحب سورية من حضن مصر والسعودية، وبكسب التنظيمات الجهادية الفلسطينية بالخدمة اللفظية والمادية للمقاومة الانتحارية والصاروخية غير المجدية. بل وصل الاختراق الإيراني إلى اجتذاب قوى سياسية وثقافية عربية انطلى عليها خداع الانتصارات الغيبية و«الإلهية».

التحسن النسبي في اقتصاد شيعة لبنان ازدهار مؤقت. لا يقوم على زيادة الإنتاج، وإنما على المعونة الأجنبية الإيرانية. وهي معونة تعرقل أساس برامج التنمية الحكومية، في حين لا تدفع شيعة حزب الله رسوم وتكاليف خدمات شبكات المياه والكهرباء الباهظة التي تقدمها الدولة لهم. بل ربما لا تدري ان تكاليف دولة الطائفة يدفعها 75 مليون إيراني لم يعرفوا من حلاوة ارتفاع أسعار النفط سوى غلاء أسعار السلع التموينية في «فردوس» نجاد.

كيف يمكن ملء الفراغ الآيديولوجي للنظام والمجتمع العربي في مواجهة المتحول في السياسة الاختراقية الإيرانية؟ ليس الحظر على العرب من قنبلة نووية في حزام إيران الناسف، إنما الحظر في أمطار الآيديولوجيا الإيرانية المنهمرة ليلا ونهارا على المجتمعات العربية. الحل في ملء هذا الخواء الآيديولوجي: عودة عاقلة وحكيمة لتسييس الهوية القومية بلا تعصب شوفيني لها. هناك حنين عربي لإحياء الانتماء التائه تحت ركام آيديولوجيا التسييس الديني. العرب بحاجة إلى عروبة انسانية تستشعر خطر الاختراق الفارسي، عروبة هادئة تحترم أقلياتها، ونعترف باسلامها كَمُكَوِّن أساسي وروحي لشخصيتها التاريخية.