سباق التسلح الطائفي

TT

ملك البحرين يحذر، هذه الأيام، من الشحن الطائفي المتصاعد. وعبد الأمير قبلان رئيس مجلس الشيعة في لبنان، يدعو الى إخماد الفتنة السنية ـ الشيعية، وسعد الحريري (من العراق) بعد أن زار مرجع الشيعة الأول في العالم، السيد السيستاني، يؤكد على عروبة العراق ولبنان وتشابه الحال، ووحدة المآل. الكل يحذر من الفتنة الطائفية، لكن الفتنة الطائفية على الأرض لا تبالي، وهي مستمرة بقوة وهيجان.

الحريري ذهب الى العراق في زيارة مفاجئة في نفس توقيت أعراس حزب الله بتحرير الأسرى، والحفلة الضخمة التي أقامها في الإعلام ولدى جماهيره، مدشناً تفرده بقرار الحرب والسلم في لبنان. في اللحظة التي كان فيها حسن نصر الله يخطب وينظر ويتحدث عن تفاصيل الصفقة بين «دولة» إسرائيل، وحزب الله، معلنا بتواضع انه ليس «ملك العرب»، حتى وإن وصفته الصحافة الإسرائيلية بذلك، كان ساسة لبنان، طمعا أو خوفا، يصطفون على الكراسي مصغين ومصفقين لخطبة «سيد لبنان»، في مشهد يؤبِّن أول ما يؤبِّن أطلال الدولة اللبنانية المترنحة.

كان لزيارة الحريري إلى العراق، التي قيل إنها تمت بنصيحة عربية ـ بعد انفتاح الكويت والإمارات والأردن على العراق الجديد ـ مغزاها ومعناها، فهي رسالة احتجاج ضمنية على استفراد حزب الله بشيعة لبنان، وهم جمهوره في الغالب. وخلاصة هذه الرسالة، إنك يا حزب الله لست مخولا احتكار الحديث عن الشيعة، وأن للشيعة العرب منهجاً آخر، ورموزاً أخرى ولغة أخرى، ونبعاً مختلفاً، هذا النبع هو النجف نفسه، النجف «الاشرف» الذي هو محط العواطف الشيعية الدينية، فلم لا يذهب إلى سيد النجف، بدل حرث الماء مع «سيد الضاحية»؟

مدير مكتب آية الله السيستاني في بيروت، حامد الخفاف، وصف زيارة سعد الحريري إلى السيستاني بالاستثنائية، وبأنها بالغة الأهمية، وقال إن الجانبين بحثا خلال الزيارة التي استمرت خمسين دقيقة، الحالة السنية ـ الشيعية على مستوى المنطقة، خصوصاً في لبنان والعراق، وبحثا سبل رأب الصدع السني ـ الشيعي، مشيراً إلى وجود التقاء في وجهات النظر بين الطرفين. وأطلع الخفاف عبد الأمير قبلان، ونبيه بري على ما جرى في زيارة الحريري، من باب التطمين ربما.

وحسب ما يقال لبنانياً، فإن حزب الله غير مرتاح لهذه الزيارة، ويشعر بنوع من الاستفزاز الطائفي له. هل نحمِّل الزيارة فوق ما تتحمل؟ اعتقد ذلك إذا ما حملنا النائب الحريري فوق ما يتحمل، لأن مسألة الإدارة الإيرانية للشيعة، أو محاولة النظام الإيراني ذلك، مسألة تتجاوز لبنان، بكل أحزابه وساسته، وتتجاوز دول الخليج منفردة، كما تتجاوز مصر والأردن واليمن، إنها مسألة تضرب عميقا في وتر العلاقات التاريخية الطائفية المتأزمة، من طرف، ومن طرف آخر تتكئ على براعة النظام الإيراني في استغلال التخبط العربي، أو الحيرة العربية، في هذه الأزمة الطائفية التي يبدو وكأنهم اخذوا فيها على حين غرة!

إيران تستنزف الرصيد الشيعي في العالم، بقوة الدولة والنفط، وبصخب الشحن الديني حول دماء كربلاء ومظلومية آل البيت، وهي شعارات رنانة تفعل فعلها في مجتمعات عربية لم تكرس بعد مفهوم المواطنة حقا، ولذلك فقد صدق السيد هاني فحص، المفكر وعالم الدين اللبناني الشيعي المنفتح، وهو يتحدث لصحيفة «الشرق الأوسط» (السبت الماضي) في سياق نقده للاستغلال السياسي للطائفية، إذ صدق وهو يشير الى أن تأزم الشيعة العرب الآن يعود في جانب منه الى عدم تجذر مفهوم المواطنة في الممارسة السياسية العربية، وانه يجب على الدول العربية والمجتمعات العربية أن تكف عن التعامل مع الشيعة باعتبارهم «جاليات» بل هم مواطنون كاملو المواطنة، لأن هذا السبيل هو الوحيد الذي ينزع أشواك القلق والخوف من أفئدة المواطنين الشيعة العرب، هذا الخوف الذي تستثمره الطبقة الإيرانية الحاكمة من أجل رهن المصير الشيعي العربي بيدها، وتوظيف هذه المشاعر في صالح الأجندة الإيرانية المؤسسة على أحلام القومية والنفوذ التاريخي، متوشحة رداء الولي الفقيه هذه المرة.

هناك جدل غزير لدى المثقفين العرب والساسة المنزعجين من هذه «الصولة» الإيرانية على المنطقة، ووضع المسدس النووي، والمسدس الطائفي، في أصداغ الجميع ما لم يصغوا إلى مطالب طهران، هذا الجدل يتركز على كيفية المواجهة؟ لا نتحدث هنا عمّن يهوِّن من خطورة النظام الإيراني «الصائل»، وأن تضخيم الخطر الإيراني يصب في صالح المشروع الصهيوني الامبريالي.. الخ لأن الجدل مع هذا الطرح التهويني هو في الحقيقة جزء من الجدل مع الخطاب الإيراني السياسي نفسه، الذي يقول مرشده السيد خامنئي في أكثر من مناسبة، إن «الشيطان الأكبر» والصهاينة هم من يُخوِّفون العرب والسنة من إيران، وان إيران لا تريد لإخوانها المسلمين إلا الخيرَ.

كل هذا كلام للتخدير والاستهلاك، إذا كان صادرا عن إيران، وهو كلام ثوري عاطفي، إذا كان صادرا عن المناضلين العرب الذين يتحدثون بلسان حال طهران.

الحقيقة أن الخطر جدي، وهو قائم بالفعل، وما نموذج حزب الله الذي قضم الدولة اللبنانية، بعلاتها وقضها وقضيضها، الا نموذج مخيف لمصائر بعض الدول والمجتمعات العربية، فبعد أن أجهز الحزب الإلهي على الشيعة اللبنانيين، وقزم المسيحيين الموارنة بشخص عون، وخوف الدروز، لم يبق له إلا السنة، فأغار عليهم في بيروت، وأشهر السلاح في البقاع، وساند من أشهره في طرابلس، هو في طريقه إلى إخضاع السنة، حتى ينفرد بلبنان.

حالة لبنان الطائفية، والاحتماء بالظهير الخارجي، لا يمكن حصرها بنموذج حزب الله، فقبل ذلك فعل الموارنة مع فرنسا، والسنة من مصر عبد الناصر، يحصل ذلك دوماً في لحظات اختلال الدولة، لذلك كانت فترة فؤاد شهاب هي الفترة الذهبية للدولة اللبنانية اللاطائفية، بسبب قوته ونجاحه في العلو على حسابات الطوائف.

الآن، ونحن نتحدث عن المد الطائفي العارم، والأزمات الأمنية المتلاحقة داخل الدول العربية، تجد الإصبع الإيراني يعبث هنا وهناك، دعونا نقول في غالب الأحوال، من حوثية اليمن إلى شغب الشيعة البحرينيين، إلى أزمة تأبين عماد مغنية في الكويت (بالمناسبة لم تنته هذه الأزمة، وسنرى تفاعلاتها لاحقا في المجلس النيابي الجديد). وغير ذلك، ناهيك من الفساد الطويل العريض التي تفعله فيالق إيران في العراق؛ وعلى رأسها فيلق القدس.

هل المواجهة تكون بتصعيد طائفي مضاد؟ البعض يرى ذلك، من باب: «وداوها بالتي كانت هي الداء»، والبعض يرى غير ذلك، وأن المواجهة يجب أن تظل محصورة في المستوى السياسي والأمني. لكن إيران لا تحصر عملها في هذا المستوى، فهي تتحرك بعدة مسارات، هناك الوجه الدبلوماسي الباسم لمنوشهر متكي وسعيد جليلي، وهناك الوجه الصاخب لجنتي وشريعة مداري، وهناك الوجه الاستخباري التخريبي الغامض لقاسم سليماني، رئيس فيلق القدس، وفوق هذه الوجوه كلها، وجه المرشد.

في تقديري أننا أمام تحديين، تحدي السياسة وتحدي التحضر، سباق التسلح الطائفي خطير، قد يثمر سريعا سياسيا، ولكن ثمره شديد السمية، وآثاره الإشعاعية الضارة طويلة البقاء. إنه سباق نحو الفناء السياسي والحضاري، وخراب المجتمعات.

من أجل ذلك، فإن مبادرات خادم الحرمين الملك عبد الله بن عبد العزيز في إرساء الحوار والتعارف ونزع فتائل الاحتراب الديني والطائفي، ليست مجرد أفعال آنية وسياسية، بل ذات أثر حضاري دائم، إذا ما توبع العمل عليها، وأخلص وانخرط فيها من رجال الدين والفكر، في الاستمرارية، لن يبقى لإيران، ولا لغير إيران، ولا لأية دولة او منظمة، سنية كانت أو شيعية، داخلية او خارجية، لن يبقى لها من جمهور يصفق لها، ويرفع القبضات عالياً باسمها، يسوق نفسه نحو الموت بفعل شعاراتها. هذه هي المواجهة الحقيقية للصولة الإيرانية.

لا مناص من هذا الطريق، صحيح انه الأصعب والأطول، ولكنه الأنفع والأبقى، ولو كانت ثقافة التسامح والتنوير والنقد والعقلانية، هي السائدة لدينا، لما وجد اسامة بن لادن أو حسن نصر الله او مقتدى الصدر او احمدي نجاد أو شيوخ التعصب والبيانات الطائفية، ومن يذوب في فيهم، ملغيا ذاته وعقله.

ما يجري، ليس إلا تعبيراً عن أزمة العقل والضمير والتنمية في ديارنا المؤجلة النهوض إلى إشعار آخر.

[email protected]