الحوار العالمي للأديان: نحو أندلس جديدة

TT

حصل في الأسبوع الماضي حدثان هامان فعلا: الأول هو الاجتماع الأوروبي ـ المتوسطي في باريس حول الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي. والثاني هو اجتماع المؤتمر العالمي لحوار الأديان في مدريد برعاية العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز.

في كلتا الحالتين يتعلق الأمر بالجمع بين العرب والأوروبيين على ضفتي المتوسط أو ما وراءهما، او بالجمع بين أتباع أديان التوحيد الثلاثة المؤمنة بالله وكتبه ورسله والقيم الأخلاقية والمثالية العليا. كلتا المبادرتين تسعى نحو الخير وتمشي في اتجاه حركة التاريخ في عصر العولمة الشاملة والمتغيرات الدولية الكبرى.

وقد لاحظت ان الجرائد الفرنسية الكبرى كاللوموند والفيغارو رحبت بمؤتمر مدريد وأشادت بالمبادرة الجريئة للملك عبد الله في افتتاحياتها الاساسية. وعموما يرى المثقفون هنا ان العاهل السعودي يسعى الى تحسين صورة الاسلام في الغرب والعالم كله بعد ان شوهتها أعمال المتطرفين وتفجيراتهم الحمقاء، الاجرامية، اللامسؤولة. وحسنا فعلت رابطة العالم الاسلامي، إذ عقدت مؤتمر الحوار العالمي بين الأديان في اسبانيا وليس في أي بلد أوروبي آخر. وذلك لعدة أسباب، أولها ان اسبانيا هي مهد الأندلس الزاهرة التي شهدت معجزة التعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود في ظل الخليفة الأموي المستنير والكبير عبد الرحمن الثالث الملقب بالناصر، فهو ايضا كان من دعاة التعايش والحوار واحترام بقية الأديان.

ومعلوم ان قرطبة أصبحت في عهده أكبر عاصمة أوروبية حضارة وعلما وثقافة. وكان لا يتردد عن توظيف كبار الشخصيات اليهودية والمسيحية في حاشيته اما كسفراء، واما كمستشارين، واما كأطباء ومفكرين، الخ. وكانت مكتبة قرطبة أعظم مكتبات العالم قاطبة..

وثانيها هو ان اسبانيا أصيبت في الصميم عندما حصلت «غزوة مدريد» البائسة والمجرمة التي أدت الى مقتل ما لا يقل عن مائتي شخص في القطارات والمحطات وجرح ما لا يقل عن ألف شخص آخرين أو اكثر. وكان ذلك في (11) مارس عام 2004.

وقد فوجئت اسبانيا بذلك قيادة وشعبا، ولم تفهم لماذا اختيرت هي بالذات للهجوم في حين انها اقرب البلدان الأوروبية الى العرب جغرافيا وتاريخيا، بل وحتى في سحنة الوجه واللون والشكل. فقد اختلطت دماؤنا بدمائهم على مدار ثمانية قرون الى درجة انك لا تستطيع احيانا ان تفرق بين الفتاة الاسبانية والفتاة العربية.

وبالتالي فاختيار مدريد واسبانيا عموما كأرضية للحوار بيننا وبين الغرب ككل شيء موفق وناجح تماما. نقول ذلك، وبخاصة انه دعي اليه اكثر من مائتي شخصية من كافة الأديان بما فيها البوذية ومن شتى أنحاء العالم. ويرى بعض الباحثين ان هذا المؤتمر يمثل ثورة كوبرنيكية بالمعنى الحقيقي للكلمة. فلم يعد التطرف الراديكالي للقاعدة وبن لادن والظواهري هو الذي يفرض اطروحاته على المسلمين ويخيفهم ويرعب العالم كله معهم. وانما اصبح التيار العقلاني المسؤول هو الذي يفرض خياراته من خلال عقد هذا المؤتمر الكبير.

هناك مشاريع أخرى تمشي في نفس الاتجاه. نذكر من بينها المؤتمر السنوي الذي يعقد في الدوحة بقطر منذ عدة سنوات والمخصص كليا لحوار الأديان. ونذكر ايضا مبادرة الأمير الهاشمي غازي بن محمد بن طلال التي أدت الى توقيع وثيقة هامة عام 2007 تحت عنوان:(قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم).. وقد وقع عليها في البداية مائة وثمانية وثلاثون مثقفا ورجل دين من مختلف انحاء العالم العربي والاسلامي. وسمعت أخيرا بأن عدد الشخصيات الموقعة وصل الى مائتين وخمسين.. وهذا شيء يبشر بالخير. فلأول مرة تستشهد هذه الشخصيات الاسلامية الكبرى بآيات من القرآن الكريم بالاضافة الى مقاطع مطولة من التوراة والانجيل. ولكن للأسف فإن الشيخ القرضاوي والتيار العام في الاخوان المسلمين يرفض التوقيع عليها حتى الآن. واذا صح ذلك فهذا يعني انهم يتلاقون مع المتطرفين عقائديا في الوقت الذي يعلنون ظاهريا تمايزهم عنهم!.. هذا تناقض ينبغي ان ينجلي قريبا. فلا يمكن ان تكون ضد التطرف سياسيا أو اخلاقيا ومعه عقائديا وعمقيا اذا جاز التعبير.. أخيرا لا يسعني في نهاية هذا المقال إلا ان أشيد بزيارة الشيخ سعد الحريري الى بغداد والنجف الأشرف والتقائه هناك بالشخصيات الشيعية قبل السنية. وهذه مبادرة ذكية وعالية المستوى وتدل على انه اصبح رجل دولة فعلا. فوالده، رحمه الله، كان ايضا من دعاة الوفاق لا الشقاق، ولم يكن يفرق بين سني وشيعي عندما يرسل الطلاب اللبنانيين المتفوقين بالآلاف الى الخارج ويصرف عليهم الملايين. لقد آن الأوان لاطفاء نار الفتنة السنية ـ الشيعية من بغداد الى بيروت الى الخليج كله.