تموز.. بعد نصف قرن!

TT

يكفي نصف قرن لتهدأ العواطف ورؤية 14 تموز 1958 بعيداً من فورة الحدث! فما لا شك فيه أن الزمن كفيل بالتهوين من أفدح الخطوب. لكن، ما شهدناه لدى التموزيين والملكيين، كأنهم يتجادلون في ذاك الصباح، وقد دارت الأيام لتكون ذكراه الخمسون الأثنين ذاته (14 تموز 2008). هذا، ومازال الحوار جارياً بين أنها ثورة أم أنقلاب، والأولى أكثر جذريةً من حيث السياسة، أما في اللغة فهما سواسية: هيجان ووثوب، إيجاباً أم سلباً!

عدَّ أصحاب الثورة الحدث ضرورة، حسب منطق الديالكتيك: تراكم صراع يتحول فيه الكم إلى كيف، ووصول ذلك العهد إلى لحظة حرجة لم يتمكن من حماية نفسه، وهو الرأي الأكثر واقعية. أما أصحاب الانقلاب فعدوه مجرد نزوة ضباط حطموا نظاماً مستقراً! هذا، ولم يحسب الفريق الأول للعهد الملكي حسنةً، وبالمثل عدَّ الفريق الثاني تموزاً مستهلاً للشرور.

أقول: أسفت على العهدين معاً، وكأني أعيش الطفولة عندما حملت دفتر المدرسة، ممسكاً بيد قريبي القاسمي، وعليه صورة الملك الجميل فيصل الثاني (قتل 1958) لأبعث ببرقية من دائرة البريد، مهنئا الزعيم النزيه (قتل 1963). وبعد حين، كشفتُ المفارقة بين الصورة والبرقية، فأسفت على الملك المقتول والزعيم المقتول معاً! حتى تداخلت في ذاكرتي المشاعر بين العهود والشخصيات، لأرغب في الجواهري (ت 1997) للموقفين: ينشد الملك: «ته يا ربيع بغصنك الزاهي الندي...»، وما أنشد في تموزياته.

يعتقد الكثيرون: لو استمر العهد الملكي لكانت الحال أفضل، ولتمكن مجلس الإعمار، مع فورة النفط، من تفوق البلاد، وسَريان التحضر في مفاصلها، لكن الصورة التي ننظرها من شبابيك (تموز 2008) بما حوت من عوائق: منازعات السياسيين، وحصر المناصب في بيوتات، واستخدام القوة بحل النزاعات، أسفر ذلك عن تموز، وإن لم يكن لكان سواه من الشهور.

لكن، الخطأ صاحب الثورة، من اليوم الأول، فتهييج الجماهير من إذاعة الدولة، على لسان الرجل الثاني، للقتل والسحل أنذرت بشؤم قادم: إباحة الدم على الأرصفة والطرقات، وكأنه ثأر للجُثَث المصلوبة للتأديب! حيث صُلب الضباط القوميون أمام وزارة الدفاع (1941)، وصُلب قادة الحزب الشيوعي حيث مكان المتحف العراقي بجهة الكرخ (1949).

بعدها بدأ العهد الجمهوري بتجاوز تلك المشاهد، مع ما ضُمر منها في النفوس، وأخذ بتنفيذ مشاريع إنمائية واجتماعية، وانطلقت الطاقات، وأهم ما فيه أنه عهد لا طائفي بامتياز، ولا يكفي للمرجعية الدينية، وأقطاب الإخوان المسلمين، معداته بسبب قانون الأحوال الشخصية! وللقوميين بسبب عدم الوحدة الفورية مع مصر! وليس من مبرر للثورة الكوردية (أيلول 1961).

يذكر شاهد عيان أن قاسم كان يغلق الباب عند صلاته، ولما سُئل قال: «أنا أمثل العراقيين، لا أريد أن يراني أحد على أي مذهب أصلي!» وهذا الوزير عبد اللطيف الشواف (ت 1996)، كتب يقول: «فلم يكن لأي من عناصر النسب والعشيرة والمذهب وجهة العيش والعرق القومي أي تأثير على قراراته السياسية، التي كانت تستهدف تطوير المجتمع العراقي كله بالتساوي، والإخاء بين تعددياته المختلفة» (عبد الكريم قاسم وآخرون). إلا أن محكمة الشعب عكست صورة أخرى، وأُرتكب الخطأ الفادح نفسه بالإعدامات، التي لا تورث غير العنف وكسر العظم! كان قتل العائلة المالكة جريمةً كبرى، وعدم محاكمة الفاعلين وتحديد المسؤولية بدلاً من محاكمة رجالات ذلك العهد وإعدامهم جريمة أخرى! ثم الدخول في ورطة المطالبة بالكويت لتصريف أزمة داخلية!

كان تنفيذ الإعدامات السياسية أحد مسوغات إسقاط العروش العراقية بالعنف وفيض من دماء، ذلك لما أصر البريطانيون على تنفيذها بالنجفيين (1918)، ولما أصر العهد الملكي بتنفيذ الإعدام بمناوئيه، وهكذا توالت الحوادث! أرى النظرية نظرية الجاحظ (ت 255هـ)، في أهل العراق، لا نظرية الحجاج بن يوسف الثقفي (ت 95هـ) التي أعلنها في خطبته المفزعة، وأدت إلى خراب العراق حينها: وقود حروب وكثرة خراج يحمل إلى دمشق. حث الجاحظ على المسياسة عندما قال: «أهل العراق أهل نظر وذوو فطن ثاقبة، ومع الفطنة يكون التنقيب والبحث، ومع التنقيب والبحث يكون الطعن والقدح، والترجيح بين الرجال، والتمييز بين الرؤساء» (ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة). ويخطأ مَنْ يرى في نظرية الحجاج حلاً.

أقول بحذر: الحلم بوطن لا يخشى حامل جوازه من بوليس المطارات، بظل حكومة تجمع خصال الثلاثة من عهود ثلاثة: فيصل الأول (ت 1933) بتحمله أعباء التأسيس، وعبد الكريم قاسم لعراقيته المفرطة، وعبد الرحمن البزاز (ت 1973) لسعيه القانوني إلى تمدين السلطة! إنه مجرد حلم ليس متأخراً.. بعد نصف قرن!