هل أنا إنسان غير وطني؟!

TT

بينما كنت في زيارة صديق يعمل في أحد مصانع (البتروكيماويات)، أخذ يفرجني ويشرح لي كأي أستاذ مع تلميذه، وكنت في الواقع منقاداً له كأي (خروف اقرن)، وهذه عادة جبلت عليها مع أساتذتي منذ أن كنت في (أولى ابتدائي).

أخذت أهبط معه السلالم من الدور الرابع نزولاً إلى الدور الأرضي، وتفاجأت به يولع سيجارة مع انه مكتوب في كل زاوية: (ممنوع التدخين)، وبعد أن شفط من سيجارته أكثر من أربع شفطات نهرته قائلاً: عيب عليك أن تخالف الأنظمة وأنت موظف في هذا المصنع، ويبدو لي أن انتقادي له قد أثر فيه، فرد علي: معاك حق، فما كان منه إلاّ أن يقول: أهه، ثم يقذف بسيجارته دون أن يطفئها بحوض زيت ساخن معتقداً انه ماء، وإذا بوهج اللهب يتصاعد مع دخان كثيف.

كنا أثناءها قد وصلنا هابطين إلى الدور الأول، وإذا بصديقي الرزين المحترم يصاب بفزع ويتركني وينطلق مهرولاً بالدرج كالصاروخ إلى الطابق الأرضي دون أن يقول لي على الأقل: (الحقني)، فيما وقفت أنا برهة محتاراً من هول الصدمة، ولا أدرى كيف أن ساقاي خطفتاني صاعداً إلى الأدوار الثاني والثالث والرابع، وفي كل دور أصل إليه أصيح قائلاً بأعلى صوتي: حريقة، حريقة، وأخذت أجراس الإنذار تقرع، والموظفون والعمال يتركون مواقعهم ويهرولون راكضين، ولم أتوقف عن الصياح إلاّ بعد أن وصلت إلى السطح.. وما هي إلاّ دقائق وإذا بي أشاهد سيارات الإطفاء تتوقف في الخارج، وخراطيم المياه ورغوات إطفاء الحريق تملأ الطابق الأول، وخلال أقل من نصف ساعة سيطروا على الوضع وانتهى كل شيء دون أية خسائر كبيرة تذكر.

وبعد أن اطمأننت أخذت أهبط السلالم بهدوء، وتفاجأت ببعض الموظفين والعمال عندما شاهدوني، يشيرون إلي قائلين: هذا هو، هذا هو.

حاولت أن أتحاشاهم وأهرب معتقداً أنهم يتهموني بأنني أنا الذي تسببت بالحريق، ولكنهم حاصروني وضيقوا علي الخناق، فما كان مني إلاّ أن أقول لهم مرتجفاً: والله ما هو أنا، والله ما هو أنا، وتفاجأت بهم يتضاحكون، وإذا برئيسهم يتجه لي مبتسماً ومصافحاً ثم معانقاً ويقول: بلاش تواضع، لقد كنت أنت الشجاع الذي مررت على كل الطوابق تحذر الجميع من الحريقة، ولولاك لتعقدت الأمور كثيراً، ولا أستبعد أن يسقط من جراء ذلك ضحايا.

عندها فقط انتبهت إلى نفسي، وبدأت انفخ صدري، وأتقمص دور الشجاع (بحق وحقيق)، وأخذت (أؤلف وأزيد وأعيد)، والجميع من حولي كانوا منبهرين ومعجبين بجرأتي على خوض المخاطر دون أن أكون هائباً ومرتجفاً من الموت.

وإلى يومنا الحاضر هذا، كلما قابلت أحداً من منسوبي ذلك المصنع، فأقل شيء يفعله معي أنه يأخذني بالأحضان، وأكثرهم يصرون على عزيمتي إما على الغداء أو العشاء، ولا أذكر أنني اعتذرت من أي احد منهم.

واليوم، اليوم فقط بدأ يؤنبني ضميري، ولا بد من أن اعترف قبل أن يداهمني هادم اللذات ومفرق الجماعات، وأقول للجميع: إنني ما أقدمت على ذلك الفعل إلاّ من خوفي غير الطبيعي، فقد سمعت وقرأت واعتقدت انه إذا اندلعت هناك حريقة في أي مبنى أنت فيه، فعليك أن تتجه رأساً صاعداً إلى السطح، وهذا هو ما طبقته بحذافيره، وعندما كنت اصرخ صائحاً: حريقة، حريقة، لم يكن هدفي أن أنبه العاملين إطلاقاً، وإنما كان ذلك صادراً مني لا شعورياً من شدة الهلع، فشعرة من بقية الشعر في رأسي، كانت ولا تزال تساوي عندي المصنع وكل من فيه من عاملين.

فهل معنى ذلك: أنني إنسان غير وطني؟!... احتمال.

[email protected]